بين عشية وضحاها، بدأت وسائل الإعلام الغربية والعربية، بما فيها بعضها المحسوب على خط الممانعة، بتسمية فصائل إسلامية تكفيرية إرهابية إجرامية، كـ «الجبهة الإسلامية» و«النصرة»، باسم موحّد «المعارضة السورية المسلحة»؛ الغرب بالغ الارتياح، لما يراه توحيد «المعارضة السنّية»! العدو الوحيد الآن، المعتَبَر تكفيرياً وإرهابياً، هو تنظيم «داعش» الذي يواجه هجمات خانقة يشنها الجيش العراقي والعشائر في الأنبار، وتشنها فصائل «المعارضة» السورية؛ كيف سينتهي الأمر بـ «داعش» التي استخدمتها القوى المعادية لسوريا، زمناً، وسهّلت وجودها وتضخّمها وتسليحها وتغطيتها سياسياً؟ الأمر بسيط؛ سينضم القسم الرئيسي من مقاتليها، مرة أخرى، إلى «الجبهة الإسلامية» و«النصرة» و«أحرار الشام» الخ، ويعود قسم صغير من «الداعشيين» الأجانب إلى ديارهم.
المعارك ضد «داعش» تعبّر عن تقاطعات؛ فالمطلوب ضربها في العراق، ووقف تمدّدها الإقليمي، والخلاص من تمرّد قياداتها ــــ أو، للدقة، ما يظهر من استقلال هذه القيادات عن أوامر الاستخبارات السعودية. الحرب ضد «داعش»، إذاً، لها ثلاثة أهداف: (1) التساوق مع التفاهم الأميركي ــــ الروسي على أولوية محاربة الإرهاب، (2) تعزيز قدرة السعودية على توحيد وإدارة المجموعات الإرهابية في سوريا، وحصر الأعمال الإرهابية في النطاق السوري، (3) إعادة تأهيل تلك المجموعات كطرف سياسي للمشاركة في «جنيف 2»، وتعويمها كـ «معارضة» مقبولة دولياً، وإشراكها في المفاوضات حول مستقبل سوريا. وفي رأيي أن الهدف الرابع المتمثّل بإمكانية توحيد جهود الإرهابيين لتحقيق اختراق ميداني ضد الجيش العربي السوري وحلفائه، لم يعد هدفا مطروحاً.
ينبغي التنبيه، هنا، إلى أن «جبهة النصرة»، الحليف العسكري الرئيسي لـ «الجبهة الإسلامية» ومليشياتها «جيش المجاهدين»، مصنّفة، دولياً، كمنظمة إرهابية، إلا أن لعبة إحياء «المعارضة» تتطلّب الصمت على هذه الحقيقة. ولكن ماذا بالنسبة الى الفصائل المؤتلفة في «الجبهة الإسلامية»؟ يمكننا أن نذكّر القارئ، هنا، بأن مجازر التطهير الطائفي التي شهدتها سوريا في الأشهر الأخيرة، من ريف اللاذقية إلى معلولا إلى دير عطية إلى جرمانا إلى عدرا العمالية، عداك عن القصف العشوائي لأحياء دمشق على أسس مذهبية، كانت، جميعاً، بإدارة فصائل «الجبهة الإسلامية»، تحديداً. كذلك، تكفي نظرة واحدة على أسماء الفصائل التي لا تزال ترفع راية الجيش الحر (راية الانتداب الفرنسي على سوريا) لتعطينا صورة واضحة عن الطبيعة الطائفية التكفيرية لمكوّنات «الحر».
للتمييز، ابتداء، بين المعارضة ــــ مهما كان شكلها وحضورها وبرنامجها ــــ وبين الإرهاب في سوريا، هناك معيار أساسي هو المتعلق بالسلاح. مَن يحمل السلاح في وجه الجيش العربي السوري ليس معارضاً، إنما هو إرهابي؛ ففي سوريا، اتضحت المعادلة السياسية اليوم بحيث لم تعد هناك التباسات: النظام السوري عصيّ على مشروع اسقاطه بالسلاح، بحيث يغدو الإصرار على مقاتلته جزءاً من عملية تدمير الدولة لا غير، لحساب قوى إقليمية، تقف في مقدمها السعودية وإسرائيل. وعلى المستوى العملي، فإن الخيار المسلح لأي معارضة في سوريا اليوم، لا يمكن أن يكون وطنياً أو داخلياً؛ إنه يعتمد على الدعم الخارجي بأجنداته، ولا يستطيع الاستمرار من دونه. وهذا الدعم يصبّ، حتماً، في صالح أجندات المموّلين التي لا علاقة لها بالتغيير السياسي والاجتماعي في سوريا.
ولجميع الفصائل المسلّحة في سوريا برامج معلنة، ليس فيها أي هدف ديموقراطي أو مدني أو اقتصادي ــــ اجتماعي، وإنما هي تتبنّى، بصراحة، إنشاء إمارة / إمارات الدكتاتورية الدينية المذهبية القائمة على تطبيق متعسّف عنفي لقراءة رجعية تكفيرية للشريعة. وبرغم أن هذا الاتجاه يشكّل، في حدّ ذاته، كارثة على أي بلد عربي أو مسلم، فإن هكذا برنامج سياسي ديني مذهبي تكفيري، ليس من شأنه، في بلد متعدد الديانات والطوائف والاتنيات مثل سوريا، سوى تمزيقها.
أكثر عناصر «المعارضة السورية المسلحة»، اعتدالاً، هي التي تقاتل باسم «الطائفة السنية»، وتتلافى تكفير السنّة ــــ ولو مؤقتاً لاستعادة حواضنها الاجتماعية المفقودة ــــ ولكنها تلحّ على تكفير «النصيرية» و«الروافض» و«النصارى» والاسماعيليين والدروز الخ؛ إنها، بالأحرى، عنوان صريح للحرب الأهلية. ولدى استعراض عملياتها «الكبرى» في الأشهر الأخيرة، فإنها تنفّذ أجندة سعودية مكشوفة لتهجير العلويين والمسيحيين والدروز الخ من «المناطق السنية» في سوريا. وهذا هو سر مثابرتها على المذابح الطائفية.
كلهم «داعش» ــــ وإنْ تغيرت الأسماء والقيادات وطبيعة العلاقات مع الأجهزة الاستخبارية ــــ ولا مكان لهم في الحوار الوطني السوري، ولا في إعادة بناء سوريا؛ فهذا البلد محكوم، بسبب تركيبته وتراثه وموقعه، بأن تلحمه الحداثة القومية والعلمانية. وبغير ذلك، فهو ذاهب إلى التقسيم والصوملة، مصير أسود لا مناص منه إلا بانتصار الجيش العربي السوري.