الخطوط العامة لاتفاقية الإطار الإسرائيلية ـــ الفلسطينية أصبحت واضحة. وما يتعارض مع هذه الخطوط من تصريحات وبيانات يتم على ثلاثة مستويات. وسآخذ، للتوضيح، مثال الموقف من الغور الفلسطيني المحاذي للحدود الأردنية. هناك، أولاً، مستوى المماحكة: تقوم لجنة وزارية إسرائيلية بالتوصية بضم منطقة الغور، في حين يؤكد الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، أن هذه المنطقة «خط أحمر»، فهي جزء من الدولة الفلسطينية العتيدة. وهو يعني ما يقول، ولا يزيّف ما يجري في المفاوضات.
وعلى المستوى الثاني، هناك الخلاف حول التفاصيل التي لم تُبَتّ؛ فالجيش الإسرائيلي سيبقى في الأغوار كـ«قوات أجنبية» لمدة 17 عاماً. إلا أن هذه النقطة لا تقع، لدى الجانب الفلسطيني، في باب الصدام، ويمكن تجاوزها! لكن، على المستوى الثالث، يصطدم المفاوض الفلسطيني بطلب مشاركة الإسرائيليين في السيادة على الحدود الثنائية مع الأردن.
ترتبط هذه النقطة الأخيرة بمجال مهم جداً هو المتصل بعودة النازحين ـــ من أبناء الضفة الغربية نفسها ـــ ولاجئي الـ48، إلى الدولة الفلسطينية العتيدة. فلأولئك الحق في زيارة دولتهم والإقامة فيها إقامة مؤقتة فقط. ومع ذلك، فللإسرائيليين الموجودين كطرف سيادي على الحدود، التحفظ على زيارة أو إقامة أي من الفلسطينيين في دولتهم لأسباب أمنية.
هكذا، يجري (1) تقويض حق أبناء الضفة النازحين جراء حرب 1967 في العودة إلى أراضيهم المفروض أنها أصبحت أراضي دولة مستقلة. وهي عودة غير قابلة للتفاوض أساساً، ما دامت منصوصاً عليها في قراري مجلس الأمن 242 و338، وما دام إنهاء احتلال الضفة يعني إنهاء ما نجم عنه من نزوح وتهجير إلخ. (2) تقويض المعادلة التي تمت فبركتها لتجريف قضية حق العودة بالنسبة إلى اللاجئين (جراء حرب 1948). وهي المعادلة القائلة إن الحل على أساس دولتين لشعبين، ينهي، حكماً، المطالبات بحق العودة؛ فاللاجئون الفلسطينيون يمكنهم العودة إلى دولتهم. لكن يتبيّن الآن أن ذلك غير ممكن إلا كزوّار، وبموافقة إسرائيل.
تستطيع السلطة الوطنية الفلسطينية، اليوم، إصدار جوازات سفر معترف بها لدى معظم بلدان العالم، لكنها لا تستطيع منح حق المواطنة في الكيان الفلسطيني، إلا فنياً؛ فلإسرائيل، هنا، القرار السيادي. ولا يبدو أن ذلك سيتغيّر في الحل النهائي، أي إنه لن تكون للدولة الفلسطينية القدرة السيادية لمنح الجنسية (أي الرقم الوطني) لملايين اللاجئين والنازحين في الأردن وسوريا ولبنان والبلدان الأخرى.
لعله، هنا، يكمن مربط الفرس بالنسبة إلى قضية اللاجئين والنازحين. فإذا كان صحيحاً أن دولة على مساحة أقل من 20 في المئة من فلسطين التاريخية لا تستطيع، واقعياً، استيعاب اللاجئين والنازحين الفلسطينيين، وإعادة توطينهم في ديارهم، وإذا كان قسم من هؤلاء غير معنيين، لأسباب اقتصادية وسواها، بالعودة الفعلية، فإن تخلي الدولة الفلسطينية عن حقها في منح جميع الفلسطينيين المهجّرين، جنسيتها، إنما يعني ليس فقط شطب حق العودة الفعلي، بل وكذلك شطب العودة السياسية.
يتمثل برنامج العودة السياسية في قيام الدولة الفلسطينية بمنح جنسيتها لجميع اللاجئين والنازحين الفلسطينيين حول العالم. ورغم أن هذه الخطوة لا تساوي شيئاً في إنجاز حل تاريخي لحق العودة، فإنها تكرّس، أولاً، وحدة الشعب الفلسطيني، قانونياً وسياسياً. وتمنح، ثانياً، جميع الفلسطينيين الراغبين، حق الإقامة في الدولة الفلسطينية والقيام بنشاطات اقتصادية وسياسية وثقافية على أراضيها، وتعطيهم، ثالثاً، فرصة المشاركة في العملية السياسية الفلسطينية، بما يعني توسيعها ودمقرطتها نوعياً، وتعزز، رابعاً، العلاقات المتعددة بين الفلسطينيين في المهاجر ودولتهم، وتفتح الباب، خامساً، أمام استمرار النضال من أجل دولة ديموقراطية في فلسطين التاريخية، يتحقق فيها حق العودة بمعناه الشامل.
حتى هذه الحلول «الواقعية» التدرجيّة الديموقراطية، لحل قضية إعادة بناء وحدة الشعب والمجتمع الفلسطينيين، يبدو أنها ليست ممكنة في الإطار المقترح للحل النهائي للقضية الفلسطينية. وهو «حل» تسعى تل أبيب ـــ مدعومة من الولايات المتحدة وبموافقة ضمنية من النظام الأردني ـــ، من خلاله، إلى تأبيد سيطرتها الفعلية على الضفة، وخصوصاً لجهة التحكّم في مجالها الديموغرافي.
في المقابل، يتحرك إطار الحل المنتظَر ـــ في ما يتصل بذلك المجال ـــ على هذه العجلات: (1) تحديد مواطني الدولة الفلسطينية بما يستثني اللاجئين والنازحين، (2) ضم تجمعات فلسطينية من الـ48 (منطقة المثلث) إلى مواطنية الدولة الفلسطينية. وهو ما يخدم هدف تخفيض نسبة العرب في إسرائيل، (3) التوطين السياسي النهائي للاجئين والنازحين الحاصلين على الجنسية الأردنية، بما في ذلك تجنيس حوالى مليون وأربعمئة ألف فلسطيني مقيم في الأردن، (4) منح الإقامة الدائمة للفلسطينيين المقيمين في دول الخليج، (5) تجنيس وتوطين أقسام من اللاجئين المقيمين في الضفة وغزة ولبنان وسوريا، لدى كندا وأستراليا.