ينهي بعض طلاب «الحقوق» سنوات الدراسة لتُفتح امامهم مباشرة ابواب «المستقبل»، هؤلاء يولدون محامين وفي افواههم ملاعق الذهب. آخرون تُفتح لهم ابواب «الغش» ينهون سنوات تدرّجهم من دون ان يتدرّجوا في الواقع، بل على الورق، هؤلاء محامون بالواسطة، لكن هناك شريحة ثالثة «واسعة» يصحّ وصفها بـ«عتّالي المكاتب»، الذين يمضون 3 سنوات في التدرّج الالزامي من دون دوام محدد او راتب ويقومون بكل الاعمال، تقريبا، ما عدا «المحاماة»، هؤلاء يشقون طريقهم بصعوبة بالغة، ويكتسبون الخبرة المطلوبة بطلوع الروح. تزخر برامج المرشحين الى انتخابات نقابة المحامين ببنود تتصل بانصاف هذه الشريحة واعادة تنظيم امورها، الا ان اي تعديل لانظمة التدرج لم يحصل، فلا جرى الزام مكاتب المحامين بتحديد ساعات العمل للمتدرجين، ولا جرى الزامها بحد ادنى للاجور، وكذلك لم تجر اعادة توصيف المهمّات التي يجب ان تنحصر فيها اعمال التدرج، وان تكون على صلة مباشرة بالتأهيل المطلوب لدخول سوق العمل... لذلك تتزايد شكاوى المتدرجين، والنقابة تحيل الأمر على القوانين الناظمة.
تجارب متدرجين

عندما دخل بول (اسم مستعار) إلى كلية الحقوق، وطموحه أن يصبح محامياً، لم يكن يتوقع أن يواجه كمّاً هائلاً من العقبات التي تفوق قدرته على التحمّل، إلى حد تفكيره أكثر من مرّة في التخلي عن طموحه. تحديداً في مرحلة «التدرّج»، التي «لن أنساها طوال حياتي». كانت فرحته باجتياز سنواته الأربع في الكلية، بدرجة جيد، قد أوهمته بأن الطريق نحو تحقيق الحلم باتت سالكة أمامه. نجح الشاب في امتحان الانتساب إلى النقابة، واستعد للتدرج ثلاث سنوات في أحد المكاتب «الذائعة الصيت». سعى بجد نحو هذا المكتب دون سواه، يقول: «توقعت أن أكتسب خبرة واسعة... لكن لاحقاً اكتشفت أني كنت مخطئاً». تخيل المتدرج أنه سيتمرن كيف يكتب دفوعه ويرافع عن موكله، وكان يظن أنه في سنوات التدرج سيستعين بأحكام القانون التي حفظها غيباً، لكن «تبيّن لي أن الأمر اقتصر بعد سنة ونصف سنة من التدرج على كلمتين فقط: تعا تعا وروح روح». يقول بول انه اكتسب حتى الان خبرة «معقّب معاملات» لمصلحة المكتب الذي يتدرّج فيه.
يذكر نيكولا كيف «يستغل بعض المحامين وجودنا كمتدرجين لتوفير عمالة مجانية تحتاج إليها اعمال مكاتبهم، فتقتصر مهماتنا على إحضار ورقة من مكتب وإرسالها إلى مكتب آخر، أو توقيع معاملة بسيطة او سحب ملف من دائرة معنية، ما يشبه دور عامل البريد». ويضيف: «نحن ملزمون إتمام ثلاث سنوات من التدرج، وإلا فلا يسمح لنا بمزاولة المهنة. أنا لا أمانع أن يستغلني المحامي، لكن فليسمح لي بأن أستغله بدوري، بمعنى أن تكون الاستفادة من الجهتين. هدفنا من التدرج أن نكتسب خبرة في حل القضايا والتعامل مع المحاكم، لكننا ننهي سنواتنا الثلاث ولا نجد في جعبتنا إلا خريطة عن الطرقات في لبنان». يقول نيكولا «إن معظم المتدرجين لا يتقاضون أجراً، وإن وجد يكون زهيدا جداً، لا يكفي بدل أجرة التنقل».
يروي رامي، الذي يختم سنته الثالثة في التدرج، قصة له مع أحد المحامين: «فعلياً أنا في السنة الرابعة من التدرج. أمضيت السنة الأولى مع أحد مشاهير المحاماة، وأجزم بأنها كانت أتعس سنة في حياتي. لم يكن يسمح لي بالاطلاع على اي ملف أو حتى بطرح الاسئلة، بحجة أن الوقت لا يزال مبكرا عليّ، فضلاً عن الإحباط النفسي الذي أصابني من جراء تعامله معي بأسلوب فوقي، فكان يردد «بعدك ما بتعرف شي بالمهنة». ويضيف: «أعترف بأني ما زلت متدرجاً أحتاج إلى تحصيل خبرات كثيرة، لكن كيف أفعل ذلك من دون أن يساعدني أحدهم؟ أضعت سنة كاملة من دون إفادة، جل ما كنت أفعله هو تنظيف المكتب بعدما ألزمني المحامي بدوام عمل مرهق».
ليس هذا هو موقف كل المتدرجين، اذ ترى ستيفاني ان افعال أصحاب المكاتب مبررة، «في النهاية يساعدوننا كمتدرجين على التمرس بالمهنة، وهم يعرفون لمن عليهم ان يقدّموا خبراتهم، فضلاً عن أنهم لن يصطحبونا معهم إلى جلسات المرافعة والاستئناف للمحافظة على زبائنهم». تؤمن ستيفاني بالنظرية القائلة إن «التلميذ قد يتغلب على أستاذه أحياناً».
يذكر علي أن قانون التدرج «ينص على مبادىء عديدة لا بد للمحامي أن يلتزمها، لكي يكتسب المتدرجون كفاءة تخولهم خوض غمار هذه المهنة الشاقة. فحضور المتدرجين مرافعات وجلسات محاكمة على نحو دوري أمر منصوص عليه في القانون، ولا يجوز أن نُحرم منه».

المكاتب غير ملزمة!

يقول عضو مجلس نقابة المحامين، ناضر كسبار، الذي عمل سنوات طويلة في إعداد المحامين المتدرجين، إن «القانون الداخلي للتدرج ينص على أن المحامي ملزم اصطحاب المتدرجين لديه لحضور ثلثي المحاضرات، إلا أنه لم يلزمهم عدد جلسات معيناً». لا ينكر كسبار الشكاوى التي يوردها بعض المتدرجين، لكنه يقول: «عددهم قليل جداً. أنا شخصيا خلال السنوات الست التي شغلتها في النقابة لم أتلق شكاوى من متدرجين، أو طلبات بتغيير مكاتب تدرجهم، إلا من عدد قليل جداً جداً، فيما المكاتب التي تبعث إلينا برسائل تطلب فيها تأمين متدرجين كثيرة، وصل عددها إلى 82 مكتبا حالياً».
ويوضح كسبار لـ«الأخبار» أن المكاتب التي يعاني فيها المتدرجون، لناحية عدم اصطحابهم إلى الجلسات، تكون «مكاتب استشارية أو إدارية، أو مكاتب يكون العمل فيها قليلاً»، أما لناحية الأجور، ففي رأيه، أن عدداً كبيراً من المكاتب التي هي بحاجة إلى متدرجين حالياً عرضت دفع أجور «مرتبة» لهم، علماً أن القانون لا يلزم المحامين دفع الرواتب للمتدرجين. في النهاية «نحن كنقابة لنا سلطة تقديرية»، لا نستطيع أن نلزم المحامين أصحاب المكاتب دفع رواتب، «ليس لأن في ذلك مخالفة قانونية فحسب، بل أيضاً حفاظاً على حقوق المتدرجين، خوفاً من أن يستخدمها المحامون ذريعة لعدم استقبالهم».