التطورات النوعية الجديدة، في السياسة الدولية، تحتاج منا إلى وقفة لتحديث أدوات التحليل؛ فالثنائيات التقليدية ـــ التي درج عليها المحللون والجمهور ـــ والمتكونة من جبهتين صلبتين متعارضتين بالمطلق، أصبحت عاجزة عن تمكيننا من الفهم. لم يعد بإمكاننا اليوم أن نقول: الغرب والشرق، محور الاعتدال ومحور الممانعة، العرب وإسرائيل إلخ، كما لم يعد بإمكاننا أن نركن إلى توصيف التحالفات كقولنا: الحلف الإمبريالي ـــ الرجعي، أو التأكيد على مفاهيم قارّة، كقولنا، مثلاً، إن الحرب الإمبريالية ضرورية للتوسع الرأسمالي. وسأبدأ من هذا المفهوم الذي تحدّته الصين التي تواصل توسّعها التجاري والاستثماري العالمي، بنجاح، من دون أن تضطر إلى إطلاق رصاصة واحدة. وهو ما تحققه روسيا ـــ جزئياً في المجال الاقتصادي ـــ لكن، بنجاح باهر في المجال السياسي؛ فهي استعادت مكانتها كقوة عالمية من دون أن تخوض حروباً، بل على العكس بتدبير المبادرات السلمية.
حين شنّت الولايات المتحدة حربها الأولى على العراق، عام 1990ـــ1991، بذريعة تحرير الكويت، ولكن فعلياً من أجل النفط وإسرائيل، لم تكن الصين تحظى بحصة تُذكَر من الاستثمارات النفطية الخارجية، لكنها، اليوم، تستحوذ على شركات نفطية كبرى حول العالم. لا تستخدم الصين البوارج والطائرات والصواريخ، بل ثلاثة تريليونات دولار مخصصة للاستثمار في الخارج، وهي تنقضّ بدولاراتها ـــ لا بجيوشها ـــ على المزيد من الشركات والأسواق الأجنبية.
وبينما كانت الولايات المتحدة عالقة بالحروب وإدارة الأزمات الدولية والإقليمية، خلال عقدي الواحدية القطبية 1990ـــ 2008، كانت روسيا تخرج من الفوضى والاستلاب، وتعيد سيطرة الدولة على الاقتصاد الوطني، وتعيد هيكلة الأخير، وتجدد صناعاتها الحربية وقوة جيشها، وتنسج العلاقات مع قوى دولية وإقليمية صاعدة. ومنذ 2008، حين وقعت الأزمة المالية الكبرى في أميركا والغرب، كان واضحاً أن العدّ العكسي لانطلاق الروس كقوة عالمية قد بدأ؛ فالأزمة تلك لم تضرب روسيا أو حليفتها الصين. ومذ ذاك، صعدتا بلا توقف. ولعل ترتيب مجلة «فوربس» الأميركية لأقوى الشخصيات العالمية، رغم أنه افتراضي ورمزي، يعكس شيئاً واقعياً حين يكون فلاديمير بوتن، الأول، والرئيس الصيني شي جين بينج، في المركز الثالث.
لمَ لا يكون النموذج الصيني الروسي في التوسع الاقتصادي والسياسي مثالاً يُحتذى لدى الأوساط المؤيدة للرئيس باراك أوباما، مجدِّداً نقاشاً قديماً بين أنصار الإمبريالية وأنصار الانكفاء في الولايات المتحدة. النقاش الحالي يأخذ صيغة أخرى: يمكننا الحفاظ على مصالحنا بالمزيد من الواقعية السياسية ودبلوماسية الصفقات، لا بالمزيد من الحروب والمواجهات. يجب القول، هنا، إن صمود سوريا، وصلابة التحالف الصيني الروسي الإيراني، من خلفها، ساهما في غلبة أنصار الحلول السلمية على أنصار الحرب في المؤسسة الأميركية التي لا يني المحافظون الجدد يعملون، بمثابرة، على إفشال سياسات أوباما الجديدة في منطقتنا.
«صين الشرق الأوسط» و«ديموقراطيّة أصيلة» و«قوة إقليمية متعاونة» إلخ، تلك بعض الأوصاف التي بدأت تنهال على إيران في الصحافة ومراكز الأفكار الأميركية التي تتداول، اليوم، أولوية مراجعة الموقف الأميركي من «العداوة غير الضرورية» مع الجمهورية الإسلامية. وهذه الأصوات تطغى على القائلين بـ«ضعف» أوباما و«عجزه» عن إدارة سياسة خارجية حازمة تحافظ على مصالح الولايات المتحدة ونفوذها في العالم.
يضع رئيس وزراء العدوّ، بنيامين نتنياهو، إصبعه على الجوهري، حين يصف سياسة البيت الأبيض لعقد صفقة مع طهران بأنها «هرولة». إدارة أوباما تهرول بالتأكيد نحو تلك الصفقة التي تتضمن، حكماً، جملة من الصفقات المطلوبة في الملفات الشرق أوسطية، تسمح، كلها، بتقليد النموذج الروسي: الحفاظ على المصالح القومية بالدبلوماسية، وتحقيق النجاح فيها جميعاً، خلال السنوات الثلاث المقبلة. وهي ما بقي لرئاسة أوباما الثانية والأخيرة.
لا نعرف ما إذا كانت هذه النزعة السلموية الأميركية مجرد لحظة عابرة، فثمة تحليل مسبب يقول إن الإمبريالية والحرب ضروريتان للرأسمالية الأميركية المفلسة، وتتغذيان من الثقافة الأميركية المسيطرة، العنصرية والعدوانية، على العكس من ازدهار الصين وثقافة السلم والتعاون لدى روسيا. لكننا، في هذه اللحظة الكثيفة من الصراعات في الشرق الأوسط، لا يمكننا أن نتجاهل أن الولايات المتحدة تهرول، فعلاً، نحو عقد التسويات السلمية. وبعضها قد لا يعجبنا كما في فلسطين، إلا أن مجمل السياسة الأميركية تصطدم اليوم بثلاث قوى إقليمية تنكفئ: تركيا التي قبلت بالأمر الواقع، وبدأت تتكيف معه، والسعودية وإسرائيل اللتان كوّنتا تحالف الأشرار؛ تجاوزت الرياض الخلافات التقليدية مع إسرائيل بشأن القضية الفلسطينية. وهي تجرّ معها إلى هذا الموقف، دول الخليج، وإلى حد ما، الأردن، وتسعى إلى ضمّ مصر إلى ذلك التحالف. لكن مصر ـــ المشغولة بتسوية وضعها الداخلي بعد حوالى ثلاث سنوات من الفوران الثوري ـــ تسعى إلى استعادة مكانتها كقوة إقليمية ـــ وهو شرط لازم لنجاح خطة إعادة البناء السياسي للدولة المصرية ـــ ولذلك، فهي ترفض الأحلاف، وتتجه نحو قَدْر من الاستقلالية، خصوصاً من خلال فتح باب التعاون الدفاعي والاقتصادي والسياسي مع روسيا.
إسرائيل التي تدرك أن الاتفاق الأميركي ـــ الإيراني يتجاوز في أهدافه ومفاعيله الواقعية الملف النووي إلى الاعتراف بطهران كقوة إقليمية أولى في المنطقة، وبدورها، تالياً، في جميع الملفات الشرق أوسطية، وجدت في التحالف المعروض عليها من قبل السعودية، بلا شروط، هدية من السماء؛ فهي، في معارضتها لسياسات أوباما، لم تعد تستند، فقط، إلى اليمين الأميركي، بل وإلى الرجعية العربية، وقدراتها المالية الضخمة، وتستطيع، اليوم، أن تقدّم نفسها كمدافع عن أمن ومصالح عربية صميمة. وأسوأ ما في هذه التركيبة هو تمفصلها على الصراع المذهبي والطائفي في المنطقة، بحيث تبدو الفكرة الصهيونية عن إمكانية نشوء تحالف سنّي ـــ يهودي ضد الشيعة والمسيحيين المشارقة، قابلة للتطبيق. وهو ما سيمثّل كارثة سسيو ثقافية تحطّم وحدة العرب والمسلمين المعنوية في العمق، ولمدى طويل. وربما يكون هذا هو فقط ما سينجح آل سعود في تحقيقه؛ فالاعتراف بالمحور الإيراني السوري وأطرافه، لا يقوم، فقط، على نزعة سلموية أميركية مستجدة، بل يجد أساسه في التوازن الدولي القائم، وفي قوة هذا المحور على الأرض وإنجازاته.