الخلافات بين النظام وتيارات المعارضة الوطنية والقوى المجتمعية في سوريا، وداخل النظام، وبين هذه التيارات نفسها، وفي داخل كل منها، عديدة ومتشعبة ومتداخلة، وتشمل رؤى وحساسيات متعارضة، وربما متصادمة، إزاء سوريا المستقبل، نظامها السياسي وهويتها الاقتصادية الاجتماعية والأيديولوجية ودورها الإقليمي الخ.
وإذا ما جرى الاعتراف المتبادل بين جميع الأطراف الوطنية التي أنضجتها سنوات الحرب، فسنكون، إذ ذاك، أمام امكانية ولادة أول ديموقراطية جذرية في العالم العربي، وخصوصا أن التجربة المريرة التي لا يزال السوريون يعيشون ويلاتها، تطرح، موضوعياً، ثلاثة استنتاجات رئيسية، هي: (1) أولوية السلم الأهلي، (2) أولوية وحدة الجمهورية وسلامتها وسيادتها، (3) أولوية السياسة، بوصفها سياقا لا ينتهي من التسويات بين الاتجاهات والمصالح الاجتماعية المتعارضة.
ومن الواضح أن المواقف المعلنة من قبل قوى النظام وأهم قوى المعارضة الوطنية (كجبهة التغيير وهيئة التنسيق والديموقراطيين الأكراد) والقوى المجتمعية كالنقابات والصناعيين والتجار والنشطاء في صفوف الشباب والنساء الخ، توصلت إلى التوافق، رغم تناقضاتها، على رفض التدخل الخارجي ووقف الحرب ومكافحة الإرهاب، وإدارة التناقضات الداخلية، سلميا. وهذا هو الأساس في قبولها المشاركة في جنيف 2، وهدفه التوصل إلى إطار إقليمي ودولي لإطلاق العملية السياسية الداخلية لإعادة بناء سوريا.
لكن الاجماع السوري وحده، حتى لو كان مشفوعا بالتوافق الروسي ـــ الأميركي، لا يكفي لنجاح جنيف 2؛ فالاعتراض السعودي ـــ الإسرائيلي ضده، لا يزال قويا. وهو يحظى بمؤيدين أميركيين قادرين على التأثير على اندفاعة البيت الأبيض نحو التسوية السلمية في سوريا. وتستخدم الرياض في عرقلة جنيف 2، انعقادا ومضمونا، قوتين تمنحهما الدعم الكامل، علنا وسرا، وهما (1) الأقلية السياسية الخارجة عن الاجماع الوطني السوري (المتمثلة في «الائتلاف»)، (2) والجماعات المسلحة من ميليشيات «الحر» السابقة و«أجنحة القاعدة»، إضافةً إلى ميليشيا جديدة يجري العمل على إنشائها بالتعاون مع باكستان وفرنسا والنظام الأردني.
يقول عضو «الائتلاف»، كمال لبواني، بصراحة: «لن نشارك في جنيف 2 بدون إسقاط الأسد». وهذا هو صوت السعودية، وجوهره: لا تسوية ولا سلام في سوريا، بل الحرب والخراب وتفكيك المجتمع والدولة. ويضيف لبواني، بالصراحة نفسها، «نحن سنواصل الحرب»، ولا يحاول إخفاء القوة المسلحة التي يلوّح بها؛ إنها قوة الإرهاب العالمية: «نستطيع تجنيد أعداد لا حصر لها من المجاهدين»، ذلك أن «وراءنا مليار مسلم»! ورغم ما يبدو من خلافات تركية ـــ سعودية، فإن أنقرة، كما كشفت تقارير صحفية جديدة، لا تزال تنظّم استضافة الإرهابيين، وتأمين وصولهم إلى الأراضي السورية.
هذه هي، إذاً، استراتيجية السعودية ـــ المدعومة من إسرائيل واليمين الأميركي وفرنسا ـــ الإرهاب المتعدد الأشكال، والحرب التكفيرية؛ فهل سيمنعها انعقاد جنيف 2 من الاستمرار، بهذه الصورة أو تلك، من تنفيذ هذه الاستراتيجية؟
مشكلة سوريا الرئيسية هي اليوم، وستبقى في المدى المنظور، مكافحة الإرهاب. وسواء أكانت في دمشق حكومة تابعة للرئيس بشار الأسد أم حكومة وحدة وطنية كاملة الصلاحيات، فإنها ستواجه، بادئ ذي بدء، مهمة مكافحة الإرهاب؛ فلماذا لا تتوصل الأطراف القابلة للانخراط في جنيف 2، منذ الآن، إلى إعلان مشترك مضاد للإرهاب؟ أظنها الخطوة الأولى لتأطير التسوية الداخلية، ترافقها، أو تليها، خطوة سياسية جريئة بإعلان الموالاة والمعارضة الوطنية معا، قوى «الائتلاف»، أداة أجنبية معادية ليس لها مكان في التسوية السورية.
أموال السعودية، وشبكة علاقاتها مع الصهيونية واليمين الغربي والإرهابيين، تغدو كلها بلا قيمة، حينما تفقد الرياض «شرعية» أداتها السياسية السورية المتمثلة في «الائتلاف» المستمر في الحضور السياسي، فقط، لأن أطراف المعارضة الوطنية لا تزال تعترف به، ولا يقطع بعضها الحبل السّرّي معه؛ أي، واقعيا، مع التدخّل السعودي.
خلال الشهرين المقبلين من تأجيل جنيف 2، سوف تسعى السعودية إلى تصعيد الأعمال الإرهابية المختلفة، أملا في «تحسين» شروط قدرتها على تغيير مضمون المؤتمر الدولي ـــ الإقليمي العتيد، من خلق إطار سوري للتسوية إلى نسف هذا الهدف.
بالمقابل، هل ينبغي للوطنيين السوريين والمشرقيين والعرب، الانتظار، أم أنهم مطالبون بالعمل لإفشال الاستراتيجية السعودية؟ كيف؟
في مواجهة الحملة الإرهابية يمكن تنظيم حملة مدنية متعددة الأشكال ضد السعودية: فضحها كقوة رجعية حليفة للصهيونية، وإغراق المنابر الاعلامية المتاحة ومواقع التواصل الاجتماعي بالمقالات والبيانات المنددة بالسعودية، وتنظيم النشاطات التضامنية مع المعارضين والمظلومين والنساء في المملكة، ومحاصرة سفاراتها بالاعتصامات والتظاهرات، ومقاطعتها، وحلفاءها وأدواتها، على كل صعيد.