«مريم»
كلّما جرّحتُ هذي البرتقالهْ
تتبسّمْ
ربّما علّمها الحبّ وأعطاها جماله
ربُّها أو طفلُ مريمْ
كلّما أوغلتُ في البحر نأى الشاطئ عنّي
ولكي أسترجعَ الشاطئ في البحر أغنّي
كلّما امتدّت إلى النجم يميني
كان برقٌ خاطفٌ أسرع منّي
كلّما أوضحتُ ما كانت تقول الشجره
خَذَلتني سوسةٌ نائمةٌ في الثمره
هكذا نبدأ من حيث انتهينا
لا لنا شيءٌ ولا شيءٌ علينا».

بمثل هذه السلاسة يأتي الديوان الجديد لمحمد علي شمس الدين «النازلون على الريح» (دار الآداب).
وفي قصيدة عنوانها: «محمد الماغوط» نقرأ:
«هل تدور الأرضُ
أم أنّ الذي كان يدورْ
حَجَلُ الوقتِ
و«سيّاف الزهور»؟
باحثاً عن عشبةٍ
يودِعُها جوفَ الفلاةْ
عشبةٍ
كنّا نسمّيها الحياةْ».
لو انفسح المجال لمضيتُ في الاستشهاد حتّى امتلاء الصفحة والصفحتين. شعرُ النضج الذي أينعت حكمته وفي الوقت نفسه حافظ على نضارة المهارة. شعرٌ يتدفّق بغنائيّةٍ غنيّةِ الإيقاع وتجربةٍ إنسانيّة مثخنة بالجروح ومثقلة بأنوار الفجر. ومن أشدّ ما يغري في هذه المجموعة السرد ونغمة الحنين وصفاء الوزن اللذين يدغدغ بهما الذاكرة والسمع وسائر الحواس:
«في المنزل الذي ولدتُ فيه كان طائر،
يعيش مثلما نعيش في أمانْ
ورثه أبي عن جدّه
عن جدّ جدّه عن «الحبيب» مثلما يقولْ
وحينما سألته عن سرّ هذا الطائر الغريبِ
كيف عاش هذه القرونْ؟
أجاب أنّ سرّهُ في صمتِهِ»...
محمد علي شمس الدين في طليعة الشعراء الذين يفاجئون، على مضيٍّ في الأصالة. وأكبر مفاجآته لقارئ مثلي لم يعد يجد ضالته من الشعر الغنائي العمودي إلّا في بطون الدواوين العتيقة، قصيدته الآتية «طلل»:
«طللٌ على جبلٍ، وكان غرابُهُ
يبكي فيضحك سقفُهُ وترابُهُ
عزفتْ عليه الجنّ بعض غنائها
فتمازجت أعراسُهُ وخرابُهُ
ومشت عليه الريح مشيةَ خائفٍ
فتخلّعت من حسرةٍ أبوابُهُ
سئم المغنّي «دار عبلةَ والجوا»
وتقطّعتْ في صوته أسبابُهُ
ولعلّهُ ألقى ربابةَ حزنِهِ
ورماهُ فوق الناطحاتِ سحابُهُ».
الشاعر شاعر في أيّ شكل أراد. العطيّة الشعريّة لا تضيع بتنويع الأداء. بالعكس. الشعر أصواتُهُ جميع ما يرتئي، وما الرداء سوى حيلة.
النازلون على شعر محمد علي شمس الدين ضيوف محسودون.


اعتذار مستمرّ

الشاعر اليمني الشاب محمد عبده العبسي يذكّرني في مقدّمة مجموعته «بل» بالعديد ممّا جزمتُ به في مقدّمة «لن» ونقضته في قصائد «لن» نفسها. يؤلم هذا التذكير وينعش اليقين بأن لا دائم في التنظير. لا ما يتناول الشكل فحسب، بل الجوهر، وهل نعرف الجوهر لنحجّمه؟ وأليس لكلٍّ جواهره؟
لم أتوقّف عن الاعتذار عمّا اقترفته من تنظيرات اعتباطيّة في شأنٍ لا يحتمل إلّا التواضع. وما جاء استنادنا أنا وأدونيس إلى كتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر إلّا إغراقاً لنا في جملةِ أخطاء. ومهما أقسمتُ أن لا أعود إلى ذرّ النظريّات داومتُ على ذرّها بين الحين والحين مرتكباً أخطاء من نوعٍ آخر. كلّ هذا من باب التبرير. لا تزال قصائد «لن» وما تبعه هي المقدّمة الأصلح لموضوعي ولا يزال موضوعي هو حيث أغيب عن كلّ شيء إلّا عن نواة الحلم الذي فيّ لا يخطئ معي.


صدّق أو لا تصدّق

أحياناً أعاود مطالعة الشعر الذي تحمّستُ له من زمان فلا أصدّق متى أغلق الكتاب وأرتاح من هذا الصدى! إيقاع الموت! أين تبخّرتْ تلك السكرات؟ أين عيناي؟ أين سحر الحروف؟
مللٌ يقتل. ما كان يلمع كالوعد بات ركاماً. هذا بودلير لا يُحتمل وهذا رمبو دعيّ المطلق. هذا الملك الضلّيل لا ينفتح له باب وذاك أبو نواس يتعثّر بالتمسخر ويقع في الطشط الجنسي اللزج وذلك المتنبّي لا يشبع من لحس دمه!
وشوقي، أحمد، الميزان الذي لم يحسم أين يميل!
ونحن معشر ديوك الحداثة أجهز أولادنا على الباقي بعدما فتحنا صندوق باندورا واندلقت منه أفاعي الكاوتشوك وعقارب القشّ. أعرنا أنفسنا لنكون جنود الهدم وبيادق القَدَر. أَطَعْنا إشاراتِ المرور الذي كان ممنوعاً وانتزعنا السدود وانتشينا بما تراءى لنا انتصاراً. ما كان أضعف خصمنا! ليتَ نستطيع إرجاعه من القبر! ولو لأيّامٍ نستأنف خلالها صراعنا وإيّاه. نُطيل أَجَلَه لتكون المهلة لتراجعنا أطول! لننتبه أنّ ما نفعله عقاب لنا ما بعده عقاب! تجنّبوا النصر! تجنّبوا النصر! ما من نصرٍ إلّا وراءه القبر! سلوا الإسكندر! سلوا يوليوس قيصر! سلوا صلاح الدين! سلوا فخر الدين! سلوا دون جوان! سلوا نابوليون! سلوا فكتور هوغو وبودلير ورمبو! سلوا دوستيوفسكي وشوبنهاور ونيتشه، سلوا سقراط وأفلاطون، سلوا موسى ويسوع ومحمد، سلوا أعواد المشانق ومقاصل الثورات، اسأل الكتب، اسأل شكسبير وسوفوكل وأوريبيد وأسخيلوس، اسأل دانتي وهوميروس، اسأل راسين ولافونتين وجبران، وماركس ولينين والماركي دو ساد، اسأل روحك، اسأل لياليك وأوهامك،
وصدّق أو لا تصدّق، سِيّان!