وضع الرئيس بشار الأسد، في حديثه لقناة «الميادين»، النقاط على الحروف في ما يتصل بالموقف من «حماس»؛ فأولاً، على «حماس» أن تحدّد خيارها الاستراتيجي: أهي تنتمي إلى المقاومة أم إلى الإخوان المسلمين؟ وثانياً، على «حماس» أن تكف عن البحث بين العواصم عن مكان ودور؛ فمكانها في وطنها، ودورها ــــ إن أرادت ــــ هو المقاومة.
هكذا، أخرج الرئيس النقاش حول المصالحة التي يُروّج لها بين محور الممانعة والمقاومة وبين حركة «حماس»، من تفاصيل اليوميات إلى مستوى الفكرة الاستراتيجية؛ فالمقاومة ليست بندقية. المقاومة نهج شامل. وقد خرجت «حماس» عن هذا النهج. طعنته في أصعب الأوقات، وانزاحت عنه إلى المشروع الاخونجي القطري ــــ التركي المرعيّ أميركياً، والمتواطئ اسرائيلياً. وهي لم تراجع انزياحها هذا في صحوة ضمير، بل تحت الضغوط الناجمة عن سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، وانكفائه عربياً، على خلفية الصمود السوري. وهذه المراجعة هي، إذاً، كما قال الأسد، محض انتهازية. والانتهازية سلوك سياسي متجذر لدى الاخوان المسلمين منذ تأسيسها. والسذّج، فقط، هم الذين يثقون بالإخونجي القادر دائماً على طعن محتضنيه في ظهورهم، حالما يستشعر شيئاً من القوة، ثم يعود للركوع حالما ينتابه الضعف. لقد حرّض مؤسس «الإخوان»، في لحظة قوّة موهومة، تنظيمه الخاص على شن عمليات إرهابية في نهاية العصر الملكي في مصر، ثم، حين وقع التنظيم في الأسر، تخلى عنه، وأصدر بيانه الشهير: «ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين». ولكن هؤلاء المنكَرين أنفسهم هم الذين حاولوا اغتيال القائد القومي جمال عبدالناصر، وهم الذين تصدّوا لمشروعه الوطني التنموي باعتباره كفراً، بل وأثّموا الصلاة في الأرض التي انتزعتها الناصرية من الاقطاعيين، ومنحتها للفلاحين الفقراء.
لا يمكن أن يكون تنظيمٌ ما، كائناً ما كانت شعاراته، إخونجياً ومقاوماً في آن واحد؛ فالأخونة خط سياسي منسول من الاستعمار والرجعية، طائفي، انتهازي، معاد للوطنية وللعروبة والتحرر الوطني والتقدم الاجتماعي. والمقاومة، في المقابل، ليست بندقية وصاروخاً؛ إنها خط سياسي استراتيجي شامل، أهم عناصره الوطنية.
والوطنية هي انتماء إلى وطن محدد متشكّل من أرض وحدود وبشر وثقافة ومجتمع، له قضية ومصالح، هي، بالنسبة للوطني، فوق كل قضية ومصلحة. وهذا، كما هو معروف، خارج حسابات «الإخوان» المنتمين إلى تنظيم هو فوق وطني، ومصالحه تعلو على أي مصلحة وطنية. وأقرب الشواهد، «حماس» نفسها التي وضعت مصالح التنظيم الاخواني العالمي في مصر وتركيا وتحالفاته الغربية والخليجية، فوق المصالح العيانية والاستراتيجية لقضية الوطن الفلسطيني المحتل، فأدارت ظهرها للدول والقوى التي تدعمها لأنها فلسطينية، لصالح الدول والقوى التي تريدها كورقة رابحة ــــ باسم فلسطين ــــ للمشروع الإخواني.
والوطنية، في معناها الاجتماعي الثقافي، هي إحلال وحدة المكوّنات الوطنية ــــ بغض النظر عن العرق والدين والمذهب والثقافة الفرعية وأنماط السلوك الحياتي، فوق كل انقسام أو انشقاق إلا ذلك المرتبط بالتحرير بالنسبة للأوطان المحتلة ــــ كما هي حال فلسطين ــــ وإلا على أساس طبقي بالنسبة للأوطان التي تريد استكمال استقلالها بالتنمية الوطنية الاجتماعية. ولم تعط حماس أي دليل على وطنيتها في هذا المجال أيضا؛ فهي تنظيم طائفي ومذهبي ويسعى، كما هو حاصل في غزة، إلى قمع التيارات الفكرية والتنظيمات السياسية والثقافات المجتمعية التي لا تتطابق مع الموديل الحمساوي.
تبحث «حماس» اليوم عن ملاذ. «حماس» لديها ملاذها الوطني في غزة على أرض فلسطين، ووجودها خارج الوطن لا معنى له سوى البحث عن دور إقليمي لا تحتاجه فلسطين. يمكن أن تكون لحركات التحرر الوطني مكاتب تمثيلية واعلامية بسيطة خارج أرضها، ولكن اصرارها على حضور سياسي قيادي كامل في المنفى لم يعد مفهوماً، خصوصاً بعدما أصبحت غزة خارج الاحتلال. هناك، بالطبع، مصاعب جمّة يعيشها الغزيون؛ فلتعشها قيادات وكادرات «حماس» أيضا، وتلتحم بشعبها وناسها، وتتيح للفصائل والقيادات الفلسطينية الأخرى، حرية الوجود والحركة في الأرض المحررة، أما حياة المنافي والمداخلات السياسية في الشؤون الإقليمية، فلا مكسب منها للقضية الفلسطينية، وإنما للقيادات وارتباطاتها السياسية وغير السياسية.
مكان الفصائل الفلسطينية هو في فلسطين، للفعالية والبناء والمقاومة، وكذلك لتقديم المثال لمئات الآلاف من الفلسطينيين ممن يستطيعون العيش في فلسطين، ويهجرونها مختارين، أما أولئك الذين لا يستطيعون العودة فعلاً، فعلى الرحب والسعة، وفي سياق مهمة مركزية هي النضال الجدي المثابر من أجل العودة؛ فقضية فلسطين، في النهاية، هي قضية حرية وسيادة الفلسطيني على أرضه.
أعلنها رئيس المقاومة بوضوح: صيغة مقاومة المنافي أصبحت من الماضي.