بدت نجاة حشيشو أكثر تماسكاً أمس بالمقارنة مع لحظة تبلغها بقرار محكمة الجنايات في صيدا الاثنين الماضي. الفترة الفاصلة بين صدور الحكم ببراءة ثلاثة من المتهمين بخطف زوجها والمؤتمر الصحافي الذي عقدته لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين، كانت كافية للوصول إلى استنتاج مفاده أنّ رحلتها مع القضاء اللبناني التي بدأت قبل ٢٣ عاماً لم تنته بعد.
تريد نجاة أن تعرف مصير زوجها محيي الدين الذي خطف قبل ٣١ عاماً. حقها بالمعرفة لن يسقط بالتقادم أو بمرور الزمن أو بقرار عن محكمة الجنايات ببراءة ثلاثة متهمين «لعدم كفاية الأدلة أو للشك».
كررت نجاة حشيشو أمس السؤال الذي لم تملّ من ترداده طوال ربع قرن: «ألا يكفي وجود العائلة التي شاهدت بأمّ العين عملية الخطف بقوة السلاح». هي تذكر جيداً سيارة البيجو البيضاء التي وضع فيها زوجها، والسيارة العسكرية التي كانت ترفع علم «القوات اللبنانية» والتي عملت على جمع العناصر المسلحين الذين طوّقوا المنزل خلال عملية الخطف.
روت حشيشو معاناتها الثانية مع القضاء اللبناني الذي لم ينصفها، وكان عليها أن تلاحق التبليغات للشهود أحياناً بنفسها؛ إذ يقولون لها في مخافر الدرك إنه ليس لديهم عناصر يكفون للقيام بأعمال التبليغ.
فجرت حشيشو أمس مفاجئة من العيار الثقيل حين أعلنت «أنها تحتفظ بتسجيل صوتي لأحد أقرباء المتهمين بحضور شخصية سياسية صيداوية، يحكي فيه عن عملية الخطف، مؤكدة أنها ستسلم الشريط للأجهزة الأمنية «عندما يُطلب مني»، وعدّته إشعاراً خاصاً للقضاء لمتابعة قضية البحث عن زوجها.
إلى جانب حشيشو، جلست وداد حلواني، رئيسة الهيئة الإدارية للجنة أهالي المفقودين الذين كانوا ينتظرون أن تنصفهم العدالة بعد طول معاناة وانتظار. فجاء الحكم بتبرئة المتهمين ومن دون تقديم أي حل من أي نوع كان للقضية المركزية التي هي معرفة مصير محيي الدين حشيشو.
برأي حلواني، يشكل الحكم مؤشراً جديداً على تقسيم البلد منذ انتهاء الحرب، وبفعل قيم الحرب، ما بين أقوياء وضعفاء. ونحن ننتمي بالطبع إلى الفئة الثانية، باعتبار أنه فرض علينا أن نكون ضحايا مع مفقودينا، وأن نحمل هذه الصفة منذ بداية الحرب حتى اليوم. ونقول بمرارة إننا نعيش في بلد يتستّر حكامه على جرائم الحرب وعلى مرتكبيها، ويحمي خاطفي أولادنا وأزواجنا وأهالينا، أياً كانت أسماؤهم.
وسألت حلواني: ما هي الإثباتات المطلوبة للقول بأنها كافية؟ أكان على السيدة حشيشو أن تستمهل الذين اقتحموا بيتها - في وضح النهار - بالسلاح، مضافاً إليه شارة القوات اللبنانية الملصوقة على لباسهم العسكري كي تحضر الكاميرا، هذا إذا كانت لديها، لتأخذ صوراً لهم واحداً واحداً حتى تتمكّن من تقديم الدليل الكافي للمحكمة؟ ثمة متهم ثبت بالدليل القاطع أنه كان هناك، من دون أي سبب أو حجة، وأدلى بإفادة كاذبة ولا يمكن أياً كان أن يصدقها. فما هي قوة هذا الدليل؟ وأهم من ذلك: إذا كانت الإثباتات غير كافية بنظر المحكمة، فلماذا لم توفر النيابة العامة أياً منها، ولماذا لم تخصص أي جهد لهذا الموضوع، بل تركتنا وحيدين نبحث عمّا لدينا من أدلة من شاهد قبل أن يتوفى أو شاهد قبل أن يسافر، وتركتنا نستنطق شهوداً لا يريدون أن يتكلموا لأنهم خائفون؟ وهنا تتوالد التساؤلات ولا تنتهي. مثلاً، كيف يتصرّف معظم أهالي المفقودين الذين «خرج أحبتهم ولم يعودوا؟»، من أين يأتون بالأدلة الكافية على الجريمة التي ارتكبت بحق أبنائهم؟ وأعلنت حلواني أن لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين ستطالب النواب، وفي مقدمهم لجنة حقوق الإنسان، بوضع يدها على مشروع قانون «الأشخاص المفقودين والمخفيين قسراً» لتقديمه بصيغة اقتراح قانون لتحديد مصائر المفقودين. ودعت حلواني كل من لديه معلومات من شأنها أن تسهم في إحقاق الحق أو في الكشف عن مصير محيي الدين حشيشو أو عن مصير أي من سائر المفقودين، إلى الاتصال بنا، وسنعلن قريباً آلية تلقي المعلومات في هذا الشأن.
المحامي نزار صاغية، بصفته وكيل نجاة حشيشو، علق على قرار محكمة الجنايات في صيدا بالقول: «مع احترامنا للمحكمة، فإن تعليلها لتبرئة أحد المتهمين لا يقنعنا، وسنعمد تالياً إلى الطعن فيه أمام محكمة التمييز. فالمتهم المذكور الذي يسكن على بعد كيلومترات عن صيدا، قد أقرّ بوجوده على بعد أمتار من موقع الجريمة، وأنه كان هناك في الوقت نفسه الذي حضر فيه الخاطفون، كل ذلك غداة مقتل بشير الجميّل، في ظل حداد وإغلاق شاملين، وفي ظل منع تجوال فرضه الجيش الإسرائيلي لأيام عدة (وقد بين الحكم أن طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية كانت تدعو إلى منع التجوال). لماذا كان هناك؟ ولماذا تجاوز جميع هذه العوائق؟ كان جوابه الأوحد: للاستفهام عن موعد الامتحانات في جامعة اليسوعية. وهي بالطبع، حجة لا يصدقها أحد وتفضح التناقض والسعي إلى إخفاء السبب الذي كان موجوداً من أجله هناك، وهي تتناقض مع عدد من المستندات الموجودة في الملف. لهذا السبب، سنطعن في حكم محكمة الجنايات أمام محكمة التمييز على أساس النقص في التعليل والتناقض الحاصل فيه.
وطالب صاغية من النيابة العامة اتخاذ موقف من الحكم، وفي كل الأحوال، من الجرمية المستمرة بحد ذاتها. فهل ستميز الحكم؟ وفي حال النفي، وفي حال التسليم ببراءة المتهمين، فما هي الخطوات التي ستتخذها لتحديد هوية الخاطف ولوقف هذه الجريمة المستمرة؟ فهل يعقل أن تبقى هذه الأجهزة على تقاعسها وحيادها في هذه القضية وكأنها غير معنية بها، فتحمل الضحية وحدها عبء توفير الدليل، عبء الاستقصاء وجمع الشهادات لوقائع حصلت قبل عقود، وكأنها تلزم الحياد في هذه القضية؟
وأعلن صاغية أنه بالتزامن مع الطعن بحكم الجنايات، ستُرفَع دعوى مدنية جديدة تهدف إلى إلزام الجهات المعينة بالخطف، بالإدلاء بما لديها من معلومات، عملاً بحق المعرفة. فمهما تكن المسؤوليات الجزائية، فمن حق ذوي المفقودين أن يعرفوا مصائرهم، وعلى الذين يملكون أدلة أو معلومات أن يدلوا بها عملاً بهذا الحق نفسه.
وطالب صاغية بإقرار مشروع قانون المفقودين والمخفيين قسراً، الذي من شأنه أن يفتح باباً للتعرف إلى مصائر المفقودين. فمع هذا الحكم، أصبح لهذا المشروع بالطبع اسم وصورة: اسمه اليوم هو مشروع قانون محيي الدين حشيشو.


يمكنكم متابعة بسام القنطار عبر تويتر | balkantar@