للجماعات المسلحة في سوريا لون طائفي لا تخطئه العين؛ صحيح أن تلك الجماعات متدرجة من الاعتدال إلى الغلوّ، لكن الكتائب والألوية التابعة لـ«الجيش الحر»، تتبنّى تسميات دينية صريحة، وتتبنى خطاباً مذهبياً من دون حياء. أدبيات هذه الجماعات التي تشكّل 99 بالمئة مما يسمى «الثورة السورية»، ذات طابع فقهي؛ فلا تحليلات اقتصادية اجتماعية ولا رؤى سياسية ولا حتى أشكال تخطيطية للدولة الجديدة المأمولة ... ولا غرابة في ذلك؛ فالحراك الديموقراطي السوري، لم يكن، بالأصل، أكثر من حركة مثقفين ليبراليين، أصبحوا، اليوم، خارج الحسابات الواقعية.
أكثر التنظيمات تماسكاً وقوة وتطرفاً وهمجية، الدولة الإسلامية في العراق والشام، (داعش)، تتقدم للسيطرة على الجميع. هذه، بالطبع، ليست مفاجأة؛ فالتمرّد الفعلي في سوريا هو ـــ وقد آن لنا أن نقول ذلك بوضوح ـــ تمرد طائفي في جوهره ودوره وخطته العامة. وفي هذا الميدان، يطرد المتطرفون، المعتدلين حتماً: لا جيش حر ولا حتى «إخوان» ولا «نصرة»؛ فلدى كل هؤلاء، حسب «داعش»، ميول انتهازية قد تنحو باتجاه الصلح مع الكفّار والروافض، بل ولدى بعضها ميول سورية لا مكان لها في استراتيجية الجهاد الأممي؛ فسوريا ميدان وليست غاية! وهكذا، نكون قد وصلنا إلى تمام الثورة السورية؛ من تحالف الليبراليين الثوريين ـــ وبينهم يساريون ـــ مع الإخوان المسلمين إلى السلفيين والصمت عن إرهابيّي «النصرة» واستخدام التحشيد الطائفي (كأداة لإسقاط الاستبداد وإقامة الديموقراطية!) حتى ... «داعش»! أفليس هذا هو المآل الحتمي للتحالف مع الإسلام السياسي في أبشع تجلّياته الطائفية؟
لدى الليبراليين، بكل تصنيفاتهم، أساس نظري لذلك التحالف، يقوم على القول إن حكم «الأقليات»، كما في أطروحة المحافظين الجدد، لا يبرر نفسه من دون الأيديولوجية القومية المعادية للغرب وإسرائيل، ومن دون القطاع العام، ولا يستمر من دون الاستبداد وقمع الخارجين عن تركيبة الحكم، بينما حكم الأغلبيات يمكنه أن يجد شرعيته في ذاته، فيؤسس للديموقراطية، ويغدو، كما يريد المحافظون الجدد الأميركيون (أساتذة الليبراليين العرب) أكثر براغماتية في السياسة الخارجية، وأكثر تقبلاً للاندماج في العولمة الرأسمالية، والميل نحو «السلام».
وعلى هذا، تأسس التحالف الليبرالي الإسلاموي الطائفي الخليجي تحت الرعاية الإمبريالية، ضد النظام السوري. ورغم أن هذه النظرة تقوم على التبسيط المخلّ للتعقيدات التركيبية التاريخية لنشوء الدولة القومية العلمانية في سوريا، فإن النكوص التنموي والإفقار والتهميش والعنف السلطوي ومنع الممارسة السياسية ومظاهر شبكة الولاءات الشرقية والفساد، منحت، كلها، لذلك التحالف (الليبرالي الإسلاموي الطائفي) فعاليته الدعائية والسياسية والقتالية، لكنها انتهت، كما تنبأنا مراراً تحت راية التكفيريين الأمميين الأشدّ تطرفاً والأكثر إجراماً في مواجهة المجتمع كله، بما في ذلك الجماعات الإسلاموية المسلحة الأخرى.
للإنصاف، يبدو كل هذا كتقليد للتحالف الليبرالي ـــ الإسلامي الشيعي العراقي المرتبط بالغرب، والذي نجح في استقدام الأميركيين لغزو العراق، وتسنّم السلطة على جثة دولة وطنية لم تستطع الأحزاب الإسلامية العراقية حتى الآن، ولن تستطيع إحياءها، مثلما ستظل عاجزة عن تحقيق المصالحة الوطنية؛ فتظل أرض العراق خصبة للإرهاب: الإسلام السياسي، بتكوينه الإيديولوجي المضاد للدولة الوطنية الحديثة، ينتهي إلى الفشل الذريع حتى في مجتمع متجانس مذهبياً كمصر، ولكنه في المجتمعات المشرقية التعددية، طائفياً ومذهبياً وثقافياً، ينتهي، حتماً، إلى الحرب الأهلية الدائمة.
في سوريا، واجه مشروع العراق 2، تعقيدات جمة؛ فعلى الصعيد الداخلي، اتضح أن تركيبة الحكم وقاعدته أكثر اتساعاً مما كان عليه عراق صدام حسين، وأكثر تمثيلاً لمصالح مختلف الفئات الاجتماعية والإتنية في البلاد. وعلى الصعيد الخارجي، تبيّن أن دولة البعث السورية ـــ بخلاف نظيرتها العراقية ـــ تحظى بحلفاء إقليميين أقوياء ومظلّة دولية تؤمنها روسيا الصاعدة في مواجهة القوة المتراجعة وشبه الكسيحة للولايات المتحدة الأميركية.
هكذا سار التمرد الطائفي في سوريا من فشل محلي إلى فشل إقليمي ودولي، كبرت على مهاده «داعش»، وأصبحت هي العنوان؛ فبينما نجح المشروع الليبرالي الإسلامي السياسي في إحداث استقطاب مذهبي شبه إجماعي في العراق، فشل في سوريا؛ ذلك أنه ـــ على رغم التهييج والتحريض الكثيفين المثابرين والعنف ضد المخالفين ـــ لم يستطع ذلك المشروع أن يستقطب، بالدرجة الأولى، سوى العناصر الريفية المهمشة، في تنظيمات مبعثرة عاجزة عن الانتظام السياسي، والتي ظهر احتياجها، تكوينياً، إلى قيادات ومقاتلين تكفيريين من خارج البلاد، موّلهم وسهّل لهم القطريون والسعوديون والأتراك القيام بهذا الدور، باعتبارهم أداة، لكن هذه الأداة، في الشروط السورية، تحوّلت إلى رأس!