كان لافتا أن ترفع على واجهة احد المباني المتضررة في أحداث عبرا لافتة تشكر «منتدى الأعمال الفلسطيني اللبناني» على ترميم المبنى، تواجهها لافتة تشير إلى أن سعد الحريري تكفل على نفقته الخاصة بترميم واجهات أبنية أخرى متضررة. منذ فترة تناقل بعض وسائل الاعلام خبرا أن «منتدى الأعمال الفلسطيني اللبناني انضم الى مبادرات إعادة إعمار عبرا من خلال المساهمة في ترميم وتأهيل مجموعة من المباني المتضررة، وجرى اطلاق المبادرة من مجدليون اثر لقاء وفد من المنتدى بالنائب بهية الحريري».

قد يبدو الخبر عاديا، لكن هذا «المنتدى» كان الهيئة الصيداوية الوحيدة التي تحركت من القطاع الخاص للمشاركة بإزالة آثار أحداث عبرا والتعويض عن الأهالي! هكذا يصبح الخبر مثيرا للاهتمام ويفتح الشهية على الاستفهام، ولا سيما ان صاحب المبادرة فلسطيني، في هذه الحال، يبرز السؤال: أين هيئات رجال الاعمال الصيداوية مما يجري؟ لماذا تغيب كليا عن ميدان الفعل والنشاط؟
نمط سياسي ريعي
مرّ نحو ثلاثة أشهر على أحداث عبرا، فترة طويلة يسجل فيها الكثير من الصيداويين عتبا على طبقة رجال الاعمال والاثرياء والمتمولين التي لم تتقدم بأي مبادرة جدية لتحريك العجلة الاقتصادية في المدينة وضواحيها لاستيعاب تداعيات ما جرى. لم يبادر أي من الفعاليات التجارية والصناعية والخدماتية بالمدينة حتى الى زيارة تفقدية (بصفة رسمية) لموقع الأحداث. لم يسأل أحد من هؤلاء أهالي المنطقة عن سبل مساعدتهم لتجاوز ما حصل. لم يبادر أحد للمساهمة بمحاولات التعويض عن المتضررين (بيوتا ومحلات). والسؤال الأكبر المتزايد صيداويا، لماذا هذا الشلل في مبادرات هذه الهيئات التي لا يسمع بها إلا في البيانات والصور والمناسبات الاجتماعية، وكأن المقصود حصر الأمر بجهة دون سواها؟ هل فعلا ممنوع على هذه الهيئات العمل بشكل مستقل عن السياسيين؟ أم هي بالفعل غير قادرة على العمل حتى وإن كانت لديها النيّة؟ أم أن النيّة غير موجودة أصلا؟
على أهميتها، لا تبدو المشكلة الفعلية في هذه التفاصيل، وان كانت تتسم بأهمية كبيرة في التشخيص. المشكلة تكمن في النمط الذي زاد من تهميش صيدا وابعدها عن دائرة التأثير والمشاركة.
يلفت متابعون للشأن الصيداوي الى أن المدينة عجزت في العقود الثلاثة الأخيرة، عن إنتاج فئة من الناشطين في مجالات الأعمال والاستثمار، لاسيما من الشباب. ما انتجه النمط السائد انحصر بفئة غير قادرة على المبادرة والعمل والإنتاج واتخاذ القرارات بمعزل عن المواقع السياسية المهيمنة. لم تستطع المدينة أن تجدد كياناتها الاقتصادية بشكل مؤثر. وبدت عاجزة عن إنتاج مجموعة جديدة من الأثرياء ورجال الأعمال البارزين.
الأسباب وراء هذا الواقع كثيرة، أهمها، برأي متابعين، ان النمط الريعي (بالمعنى السياسي الواسع) لا يسمح باستثمار مزايا مدينة كصيدا، وبالتالي لا يسمح بتطوير نشاطات انتاجية وخدمية موفّرة للثروة والدخل والقيم المضافة العالية. وكذلك لم يسمح بافلات اكثرية المبادرين الشباب في صيدا من قبضة المهيمنين. ترافق ذلك مع احتدام الانقسام السياسي الذي عاشته صيدا خلال الأعوام الأخيرة، والذي انعكس سلبا على الكيانات الاقتصادية للمدينة وأدى إلى الحد من بروز الجديد أو تطور ما هو قائم منها. ويذهب البعض إلى الحديث عن توجه واضح وممنهج لدى الأقطاب السياسيين في المدينة (رغم اختلافهم) أو حتى خارجها، لتفريغ هذه الكيانات من معناها ودورها، والحد من قدراتها على العمل والتأثير لإبقائها في خدمة مصالح هذه الأقطاب نفسها.
خلال السنوات الماضية، أدى هذا الأمر إلى ظهور حالات إحباط كثيرة، لاسيما في أوساط الشباب الصيداوي الطامح، ما ترجم عمليا بظاهرة ترك المدينة (رأس مال وطاقات بشرية) إلى خارجها، ما أنتج «أثرياء صيداويين خارج صيدا» وفي بلدان كالبرازيل، قطر، الإمارات، السعودية، الكويت.
في الواقع، انحصر القطاع الخاص الصيداوي في كيانات تقليدية لعائلات معروفة تميزت ماضيا في تعاطيها بعالم المال والأعمال والتجارة والصناعة والزراعة، ولم يبق لها من ذلك إلا الصيت والارث، ومنشآت يتآكلها الصدأ على الرغم من أنها كانت يوما السبّاقة على مستوى الجنوب في مجالات عدة. لذا تبدو المدينة اليوم وكأنها تعيش في اقتصاد الماضي، فهي خاوية من معمل أو مصنع بمواصفات حديثة ومعايير متطورة. يقال أنه جزء من مسلسل سلب المدينة لذلك الدور الريادي الذي كان لها، كل ذلك دون أن تلمس تحركا صيداويا جديا للتغيير.
رجال اعمال فلسطينيون
إزاء هذا الركود في المشهد الاقتصادي الصيداوي، ثمة متغير على صعيد المدينة، يبرز منذ فترة.
تاريخيا، كانت صيدا تشكل في الجغرافيا بداية إمارة عكا، وارتبطت معها بعلاقات تجارية وثقافية وإنسانية لا تزال آثارها قائمة حتى الآن. اليوم يبدو أن التاريخ يترك اثرا بارزا.
في تعريفه الرسمي، فإن جمعية «منتدى الاعمال الفلسطيني اللبناني» التي تتخذ من القسم 30 من العقار 1731 صيدا ــ الدكرمان، مركزا لها، هي جمعية خيرية، ثقافية واجتماعية، تعنى بشؤون الفكر والعلم...عبر إنشاء المراكز التعليمية والإرشادية والاجتماعية... وتطوير العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، واقامة العلاقات التجارية...» المؤسسون: حسن محمد الشماس ــ محمد مصطفى قداح ــ بلال محمد كيلو ــ فادي عيسى كيلاني ــ سمير حسن السبع اعين ــ طارق سامي العكاوي (ممثل الجمعية تجاه الحكومة).
هذا في الظاهر، إلا أن هذا المنتدى «النشط» استطاع في أقل من خمس سنوات أن يفرض حضورا في المدينة عبر مجموعة من النشاطات، لم يكن آخرها المساهمة بترميم مباني عبرا، فمن هم هؤلاء الذي يكثر تداول أخبارهم في المدينة هذه الأيام.
منذ مدة يسجل حضور فاعل لرجال أعمال فلسطينيين في الدورة الاقتصادية للمدينة. رجال أعمال من عائلات سكنت صيدا، أكثرهم ولد وترعرع فيها. تصح فيهم صفة «الشباب» فالمعدل الوسطي لأعمارهم لا يزيد على 45، وهذه ميزة لافتة لحركتهم ونشاطهم.
يتمركز ثقل الاعمال لهؤلاء بشكل أساسي في قطاع العقارات والبناء، والمؤسسات التجارية الضخمة التي تتعاطى تجارة مسلتزمات البنى التحتية والصحية، إضافة إلى السوبرماركت الكبيرة، ومحال لبيع التنباك والدخان، وشبكة محطات وقود، وغيرها...
وكأي ظاهرة، لاسيما في مدينة كصيدا، رافق نشوؤها العديد من الأسئلة التي لا تزال تتداول حتى اليوم عن مصادر المال، والثراء السريع، والعلاقات بأثرياء فلسطينيين في الخارج. اللافت أن أغلب رجال الأعمال هؤلاء يتحدرون من خلفيات إسلامية (ما عدا واحداً محسوباً على حركة فتح)، الأمر الذي جعل الكلام عن جهات سياسية معينة تقف وراء هذه الواجهات يكثر. وإلا فكيف يمكن لمحل أحذية أن يتحول في أقل من سنتين إلى مركز تجاري ضخم؟
مهما تكن الأسباب الحقيقية وراء الظاهرة، إلا أن المنتدى نجح في وقت قصير من اثبات حضوره. فهو مر في مسيرته بمرحلتين أساسيتين، الاولى تأسيسية (من عام 2008 حتى 2011). والثانية فعلية منذ 2011 حتى اليوم.
يرأس المنتدى حاليا الحاج طارق عكاوي الذي يقول في حديث صحافي له أن «أولوية عمل المنتدى في الفترة المقبلة هي الانفتاح على كافة القطاعات، لذا قمنا بالتواصل مع رجال أعمال في بيروت والبقاع والشمال يعملون في مختلف المجالات. كذلك نحن منذ البداية على تواصل دائم مع مجموعة رجال أعمال فلسطينيين موجودين في الخارج. ففكرة المنتدى تكمن في تجميع رجال أعمال فلسطينيين من لبنان واستيعاب رجال الأعمال في الخارج الذين لهم موطئ قدم في لبنان».
ما يلفت في حديث عكاوي ان المنتدى يطرح نفسه اطارا يتجاوز مدينة صيدا، الا انه يجد في هذه المدينة مجالا رحبا له للعمل واطلاق المبادرات التي تخدم اهدافه، على عكس رجال الاعمال والاثرياء الصيداويين الذي راحوا في الاتجاه المعاكس، او فرض عليهم هذا الاتجاه. وهذه المفارقة تزيد من الاسئلة؟ فهل للأمر علاقة بحصرية يمارسها المهيمنون من خلال تحكّمهم بمواقع السلطة والنفوذ لنفي اي منافس صيداوي؟ وبالتالي، هل سمح ذلك بحرية مبادرة اكبر لرجال اعمال فلسطينيين حتى ولو كانوا مضطرين لاعلان مبادراتهم من مجدليون تحديدا؟ وهل سيزيد الانقسام السياسي بابعاده الاجتماعية من الاحباط؟ ام ستدفع الخسائر والفرص الفائتة الى تعزيز التفلّت من القبضة؟ إنها البوابة الاقتصادية التي يقرعها قلة من الشباب المتحمس للعمل، فهل يكون الفلسطينيون هم محرّكي ركود المدينة؟