من باب توما، وفد الشباب الشجعان، لمشاركة جنود جيشهم الوطني في تحرير معلولا من الهمج المرتزقة؛ فأين مسيحيو المشرق من معركة الوجود هذه؟العثمانيون الذين منعوا التراكم التاريخي التنموي في بلاد الشام من تحقيق القطيعة مع التخلف، أداروا «الرعايا» في إطار «نظام الملل» الذي منع الاندماج القومي للمواطنين، وحصرهم في إطار الطوائف والمذاهب. وهناك مَن يمتدح ذلك النظام الرجعي من زاوية قدرته العملية على تنظيم «التعايش» بين كيانات منفصلة؛ وكأن الانفصال الكياني الطائفي، قدرٌ لا يُرَدّ.

في القرن التاسع عشر، تطور الانتاج الزراعي والحرفي في البر الشامي، وتنامى دور البلاد في التجارة العالمية، ووُجدتْ فئات اجتماعية ديناميكية في مناطق عديدة منها، وخصوصا في جبل لبنان وحلب. وكان يمكن، لولا التدخلات الاستعمارية الأوروبية وجمود الدولة العثمانية ونظاميها الضريبي والملّي، أن تتطور برجوازية وطنية عضوية، تنتقل بالبلاد إلى الحداثة. ولكن نواتها كُسرتْ في الحرب العالمية الأولى، واستُنزف رصيدها الديموغرافي الحيوي بالمجاعات والهجرات.
نحن نتحدث، إذاً، عن ما سُمي عصر النهضة بإنجازاته التنموية والاجتماعية والثقافية والمدينية، أعني انجازاته المغدورة في ما عُرف بـ «الثورة العربية الكبرى» التي لم يستطع برجوازيو الشام القوميون العلمانيون ــــ بسبب ضعفهم التكويني ــــ قيادتها، فسلّموها إلى قيادة قبلية دينية تمثلت في أمير مكة، الحسين بن علي. وباقي القصة معروف.
كان العرب المسيحيون، في حقبة النهضة تلك، أكثر الفئات الاجتماعية فعالية، اقتصادياً وثقافياً وسياسياً، وأكثرها توجّها نحو الاندماج القومي. ومن بين صفوفهم، بالذات، ظهر ردان تاريخيان على هزيمة الثورة العربية؛ الرد القومي العربي ـ البعثي والرد القومي السوري.
كلا الردين ، العروبي والسوري، كانا احتجاجاً على تقسيم سوريا، وفصلها عن المدى العراقي، ما أدى إلى انحطاط كبرى مدن الشام، حلب التي تقوقعت داخل حدود جمهورية فقدت، أيضاً، إقليما بحرياً كاملاً هو لواء الإسكندرون. وفي روايته، «بقايا صُوَر»، يرسم لنا حنّا مينه، مأساة هجرة العرب المسيحيين من اللواء السليب، في لوحات أدبية حية.
تقسيم بلاد الشام قسّم الكتلة العربية المسيحية الوازنة ديموغرافيا وسياسيا ــــ رغم استنزافها بالاغتراب ــــ إلى «أقليات» في أربعة كيانات جديدة؛ أكبرها ــــ بالنسبة إلى عدد السكان المحليين ــــ في لبنان، وأكثرها تجذراً وحضوراً وطنياً في الجمهورية العربية السورية التي ظلت تشكل، رغم كل شيء، المركز القومي للمسيحية العربية، بينما انخسف ثقل الحضور الديموغرافي المسيحي في فلسطين جراء الهجرات اليهودية، وفي الأردن، لاحقاً، جراء الهجرات البدوية والفلسطينية.
تعرضت المسيحية العربية في فلسطين إلى الدمار المنهجي بسبب تدمير المجتمع الفلسطيني على أيدي الكيان الصهيوني، وتشريد الفلسطينيين، ودفع المسيحيين منهم، تحديداً، إلى الهجرة إلى بلاد الاغتراب في الأميركتين، ليلاقوا، هناك، إخوتهم المهجرين من سوريا ولبنان، من فترتي الأزمة الاقتصادية والحرب الأولى.
في لبنان، بدأ تدمير الكتلة المسيحية في عهد انتداب «الأم الحنون»، فرنسا؛ فبتشجيعها اقتصاداً كمبرادورياً تجارياً ومالياً ــــ عاملاً كوسيط إقليمي للرأسمالية العالمية ــــ ومعادياً لبناء دولة وطنية تنموية، تحطّم الاقتصاد الزراعي والحرفي في جبل لبنان، وبدأ تفريغ الريف من سكانه، سواء لصالح بيروت الكمبرادورية أم لصالح الاغتراب. وما زال هذا الاستنزاف قائماً لأن البنية الاقتصادية ــــ السياسية اللبنانية ما تزال معادية للدولة والتنمية وطاردة للسكان.
في الستينات والسبعينات، أصبحت الكتلة المسيحية الشعبية اللبنانية المفقَرة والمهمّشة، قاعدة للأحزاب الفاشية ــــ كالكتائب و«القوات» و«الأحرار» ـ وقد تمكنت هذه الأحزاب من تحويل قسم رئيسي من مسيحيي لبنان إلى التناقض مع تراثه العلماني التقدمي العروبي. وساهم قيام الحركة الوطنية على أسس طائفية، بدفع أحفاد جبران خليل جبران إلى الغيتو الطائفي. الفاشية التي عرّضت الحضور المسيحي اللبناني إلى النكوص التاريخي، لم يحاسبها أحد على جرائمها بحق أكثر الفئات الاجتماعية في بلاد الشام، تقدماً، بما في ذلك تشويه وعيها واحباطها واغترابها.
كان الجنرال ميشال عون، لحظة أمل للمسيحية اللبنانية والمشرقية، لكنها لحظة تبدّدت، وستظل تتبدّد طالما لم يدرك العونيون أن خلاص المسيحيين اللبنانيين لا يحدث في إطار لبنان، وإنما، فقط، في إطار مشرقي يستعيد ثقل الكتلة العربية المسيحية عبر الحدود المصطنعة.
هذا هو الأفق الوحيد للمسيحية العربية، وأساسه الباقي هو سوريا القومية العلمانية التي تتعرّض اليوم إلى هجمة عثمانية وهّابية بربرية، تهدد المسيحية السورية وحواضرها وحضورها، وتهدّد، بالتالي، بانمحاء المسيحية المشرقية كلها. لكل هذا، فالمسيحي الذي لا يقاتل دفاعاً عن دمشق، يخون الوطن والعروبة والمسيح.