.. واقتحم مجرمو العصابات التكفيرية، معلولا، استولوا على ما سموها، «عاصمة الصليبيين»؛ يقصدون، بالطبع، عاصمة المسيحية المشرقية. بالنسبة إلى هؤلاء الإرهابيين، ليس المسيحيّ سوى «صليبي»، «غاز» في أرض المسلمين، لكن العناية الإلهية، الآن، تسخّر الصليبيين الحقيقيين في الغرب، بطائراتهم وصواريخهم وأسلحتهم وإعلامهم وجيوشهم، في خدمة «الجهاد الإسلامي» ضد «الصليبيين المستوطنين»!
معلولا بلدة مشرقية مقدسة أقدم من الصليبيين؛ بل أقدم من المسيحية؛ ففيها آثار وثنية من القرن العاشر قبل الميلاد، وفيها أوابد مسيحية من العصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية، وفي فجاجها الجبلية الشاهقة، خلوات للعبادة الفردية المنبتة الصلة بكلّ ما في هذا العالم من أحداث؛ فالحدث المركزي، بالنسبة إلى معلولا، وقع، نهائياً، مع انتصار القدّيسة (تقلا) التي لاذت بإيمانها وجبلها وسورياها في مواجهة امبريالية ذلك الزمان الرومانية. هكذا تحولت معلولا إلى حصن للمقاومة الروحية عصي على مر الأزمنة، حتى إنها حافظت على لغة السيد المسيح، السريانية ـــ الآرامية، شقيقة العربية، كقطعة باقية من زمن التجسّد الإلهي.
معلولا، البلدة التاريخية الدينية النادرة، التحفة الطبيعية المعمارية البديعة في بلاد الشام، ثانية القدس، ومحجة مسيحيي المشرق... هل من المعقول أن تسقط في أيدي الإرهابيين بهذه البساطة؟ ألم يكن متوقعاً اجتياحها من قبل المجرمين التكفيريين الوهابيين لشفاء الغليل المريض للطائفية العمياء؟ كيف، إذاً، لم تنتبه دمشق لحمايتها بقوة عسكرية كافية لصدّ الغزاة عنها؟ أتُترَك هذه الجوهرة السورية بلا حراسة كافية؟ بلا أسوار من الجنود تذود عنها القطعان الهمجية؟ لا يتعلق الأمر، فقط، بصروح دينية، بل بكنز آثاري حيّ هو من بين العناصر التي تمنح سوريا، روحَها، وبكنز من الفن المعماري والفنون التشكيلية الدينية الأخرى التي لا يتوافر مثلها في مكان آخر في العالم كله.
الآن، سيكون الغزاة الإرهابيون قد بدأوا حفلة اللصوصية المعهودة في معلولا؛ النهب والتخريب والتدمير والقتل والاغتصاب. هذه المأساة الكارثة بحق البشر والروح والتاريخ والجمال، لن تجد لها مكاناً في نقاشات العواصم الغربية التي تضج اليوم بالبحث عن أفضل السبل لنصرة جبهة النصرة في سوريا، من إنهاك الجيش العربي السوري إلى تحطيم البنى التحتية، وتوقيت القصف الصاروخي للمواقع السورية بهجمات برية لآلاف المرتزقة، في سياق خطة تفرض سيرها، بغض النظر عن التصاميم المسبقة، نحو هدف واحد، هو قيام أفغانستان أخرى في سوريا.
بالطبع، سيسترد الجيش العربي السوري، معلولا؛ وفي القتال، سيكون على البلدة/ التحفة التاريخية أن تخسر الكثير مما خلّفه لها التاريخ من شواهد الحضارة. هل كان ذلك ضروريا؟ ألم تكن معلولا تستحق قوة دفاع توازي، عددا وعدةً، قيمتها الآثارية والدينية والإنسانية؟
غزاة معلولا أتوا، يحرّكهم الحقد الأسود، من كل البلدان، وسيعود هؤلاء أو مَن تدربوا معهم، إلى تلك البلدان، شاهرين سلاح الموت ضد كل ما هو مسيحي، أثرا أو ديرا أو كنيسة أو مقاما أو دورا أو سكاناً. من هؤلاء، زملاء إرهابي أردني فجّر سيارته عند حاجز عسكري على مدخل معلولا، فاتحا الطريق لاقتحامها؛ فكم أردني سيعود من سوريا لينسف ذلك الوئام العشائري التقليدي بين المسلمين والمسيحيين الأردنيين؟ هل علينا أن ننتظر تكفيريين وهابيين ينسفون، غدا، كنائس مغطس السيد المسيح على نهر الأردن؟ سؤال برسم السلطات الأردنية التي تمارس النفاق، فتدعو إلى مؤتمر لحماية المسيحيين في عمان، بينما تمنح التيار التكفيري المحلي، تسهيلات سياسية وأعطيات تمكنه من التمدد والحشد وإرسال المزيد من الانتحاريين إلى سوريا. وقد يكون انتحاري حاجز معلولا، واحدا منهم، واحدا من أولئك المعبأين بالكراهية التي بدأت تخترق صفوف البلد، وتثير، حسب مطران اللاتين في الأردن مارون اللحام، الهواجس وأسوأ التوقعات.
حتى الآن، لم يقم أحد بتغطية سياسية وإعلامية في مستوى حرب التطهير التي تعصف بالمسيحية السورية، ولا في مستوى نتائجها الراهنة والبعيدة المدى؛ فمن أصل مليوني مهجّر سوري، داخل وخارج وطنهم، هناك 450 ألف مسيحي أي ما يقارب ربع المهجرين. وبمقارنة النسب السكانية، يتضح، جليا، حجم الإرهاب المتعدد الأشكال الذي يقع على كاهل المسيحيين، تحديدا، في سوريا الجريحة. ولعل اجتياح معلولا، بما تحمله هذه البلدة المقدسة من أبعاد رمزية، أن يضاعف هجرة المسيحيين السوريين. أتطلّع الآن إلى حزب الله أن يتولى بنفسه استعادة معلولا، ومن ثم حمايتها، أسوة بما يفعل في مقام السيدة زينب، لكن ندائي الأساسي هو للمسيحيين العرب أنفسهم في كل مكان يتعرّضون فيه للتهديد والذبح على الهوية: ليس الرد على التكفيريين بالهجرة، بل بامتشاق السلاح..