تمنع الدولة، بموجب قانون، كل آلية من السير لا تحمل لوحتي تسجيل. واحدة أمامية وأخرى خلفية. حسناً، ما الفكرة من هذه اللوحات؟ الجواب: «هي بمثابة بطاقة هوية لتحديد صاحب السيارة أو الآلية». الجواب بديهي، والمتحدث مسؤول أمني، وكل شيء بحسب القانون.
طيّب، هل تعلمون أن عشرات آلاف السيارات، التي تسير اليوم على الأراضي اللبنانية، يملكها أشخاص غير الأشخاص المسجّلة باسمهم لدى الدولة؟ هل تعلمون أن هذا يحصل بموجب عمليات شراء حصلت، وما زالت تحصل، لدى كاتب العدل من دون استكمالها لاحقاً لدى «النافعة»؟ هل تعلمون أن ثمّة ثقافة شائعة، لدى قسم كبير من الناس، اسمها «وكالة البيع عند كاتب العدل؟». هل تعلمون أن هذا غير قانوني، وأنه إجراء يُفقد لوحات التسجيل أي معنى لها؟ يجيب المسؤول الأمني المعني بشؤون السير: «نعم هذا صحيح... نعلم بكل هذا، ولكن ماذا يمكننا أن نفعل؟ قانون السير الجديد الذي يضبط عمليات البيع والشراء المذكورة غير معمول به حالياً، أما القانون القديم، المعمول به الآن، فلا ينظمها كما يجب وهذا ما يجعلنا مكبّلين أمام هذه الثُّغَر الإجرائية».
جواب واضح وصريح. يُسجّل لهذا المسؤول أنه لم يختبئ خلف أصبعه. صحيح أنه مسؤول، ولكنه في نهاية الأمر موظّف، يُطبّق نص القانون حرفياً، ولا يحمل أي صفة «تشريعية» حتى يُعدّل القوانين. المسألة أكبر منه، هي بيد الحكومة، وقبلها مجلس النواب (الذي صدر عنه قانون السير المُجمد أخيراً خلافاً للقانون). المسألة الآن لم تعد تعني مطاردة سارق يقود سيارة، واللهاث وراء رقم اللوحة لتدوينه، ثم يتبيّن لاحقاً أن السائق بريء. الحديث الآن عن قتلة يُنظّمون قتل الناس بواسطة السيارات المفخخة.
سيارات بلا صاحب
قيل إنّ السيارة التي انفجرت في الرويس، وخلّفت عشرات الشهداء والجرحى، كانت مباعة أكثر من مرة بموجب «وكالة بيع». حُدّد هيكلها، وأمكن الوصول إلى اسم صاحبها الأصلي، المسجّل لدى هيئة إدارة السير والمركبات الآلية، لكن تبيّن أنه كان قد باعها سابقاً. من اشتراها منه لم يبادر إلى تسجيلها لدى الهيئة المذكورة، وبالتالي لم يكن لدى الدولة أي معلومات عنه، مثل عنوان سكنه وعمله ورقم هاتفه وغير ذلك. قانون السير القديم، المعمول به حالياً، يسمح بعملية بيع واحدة بموجب وكالة بيع، ويمنع البيع لاحقاً بناءً على الوكالة الأولى، ولكن «هذا يحصل أحياناً لدى بعض كتّاب العدل، لذا يجب على وزارة العدل التشدد مع هؤلاء الكتّاب، بل ومحاسبة من يخالف منهم نص القانون». ليس لدى أحد المسؤولين الأمنيين ما يزيده على هذه الكلمات.
في الآونة الأخيرة، سُجلت مطاردة لسيارة من جانب القوى الأمنية في مدينة صيدا، وحُدِّد رقم لوحتها من دون توقيف سائقها. لكن بعد التحري عن هوية السيّارة، تبيّن أن ملكيتها تعود لمواطنة مقيمة في كسروان، كانت قد باعتها سابقاً لشخص يقيم في صيدا، من دون إجراء معاملة نقل الملكية لدى «النافعة». في هذه الحالة تعتبر الدولة أن السيارة لا تزال باسم مالكتها الأولى، وبالتالي إن كل مخالفة لقانون السير، من محاضر ضبط وغرامات، ستُحوّل إلى عنوانها وتُسجّل على اسمها. في هذه الحالة حتى محاضر ضبط السرعة، التي تنفذ بواسطة الرادارات القارئة لأرقام لوحات التسجيل، ستحوّل إلى المالك الأول للسيارة. المشهد يصبح هكذا: المالك الجديد يقود السيارة بسرعة زائدة، فتحرر المخالفة باسم مالكها السابق، فيصله محضر الضبط حتى ولو كان هو خارج لبنان. والأهم أن الدولة لا تعترف هنا بحق الاعتراض. عليه أن يدفع بهدوء، وأي تخلّف عن الدفع سيحال على المحكمة، وعندها لن يعود بإمكانه تسديد رسوم الميكانيك أو تسجيل أي سيارة جديدة باسمه، إلا بعد أن يُسدد ما عليه من مترتبات سابقة. نحن أمام معضلة.
رحلة البحث عن الشاري
لماذا تسمح الدولة، والحال كذلك، بالاستمرار في إسباغ الشرعية على عمليات البيع والشراء بموجب «وكالة»؟ الجواب مجدداً: «إنه القانون»... حسناً، لدينا مشكلة مؤقتة الآن تتعلق بالقوانين، ولكن إلى حين الخروج منها والثبات على قانون محدد، ما الإجراء الذي يمكّن مَن باع سيارته سابقاً من أن يلجأ إليه حتى يبرئ ذمته من المسؤولية؟ هنا يوضح المسؤول الأمني الآتي: «على صاحب السيارة أن يبحث عمّن اشتراها منه، فإن وجده فعليه أن يتفق معه على الذهاب إلى هيئة إدارة التسجيل لنقل ملكيتها إلى اسم الشاري، وإلا فلا حل». لكن ماذا لو لم يجد شاري السيارة، إذ ربما غيّر عنوان سكنه أو غادر البلاد، أو ماذا لو وجده لكنه رفض نقل ملكية السيارة لاسمه لأي سبب كان؟ «هنا لا يعود بإمكان صاحبها الأول سوى التوجّه إلى النيابة العامة، للادّعاء عليه أمام القضاء، بهدف إجباره على التسجيل».
هكذا، يبدو أن آلاف السيارات، مع حلول مرقّعة كهذا، ستبقى إلى أمد بعيد خارج كل قيد. القضاء الذي تبقى لديه قضايا قتل وجرائم جنايات سنوات طويلة بلا حل، هل يظن البعض أنه سيكون «فاضياً» لدعاوى السيارات؟ هذه القضايا، التي إن قرر فعلاً المضي بها، فإنه سيحتاج ربما إلى «سنوات ضوئية». ويزيد من هذه المشكلة أن هذه السيارات يمكن أن تُسرق من مالكها (غير الرسمي)، ثم يحصل تغيير في هيكلها ولونها، وهنا تدخل هذه الآليات في متاهة أخرى. هنا ينضم المخالف إلى الدولة في عملية البحث عن المجهول.
الكتّاب العدل ضائعون
الكاتب العدل في بيروت أسامة غطيمي «ضائع». ربما ككل كتاب العدل في لبنان. في حديث له مع «الأخبار» يقول: «نحن ضائعون، لقد صدر قانون السير الجديد الذي ينظم بدقة عالية عملية بيع الآليات وشرائها، لكن الحكومة عادت وجمّدت العمل به، ثم لاحقاً أفتى مجلس شورى الدولة بعدم الجواز للحكومة أن تقرر التجميد، وبالتالي أنا من جهتي أرى أن من واجبي التعامل مع القانون الجديد كقانون وحيد وأعمل الآن بموجبه». ويضيف غطيمي: «القانون الجديد ينص على استمارة خاصة، ولا يمكن البيع إلا بوجود الطرفين مع إفادة سكن وإفادة براءة ذمة من مؤسسات الهاتف والمياه، إضافة إلى وجوب حضور شاهدين». هكذا، غطيمي من كتاب العدل الذين قرروا السير بهذا القانون، على عكس كتاب عدل آخرين ما زالوا على القانون القديم، «علماً بأنّ الدولة حالياً لا تتعاون معي، فأنا أرسل المعاملات إلى هيئة إدارة السير لتثبتها في قيودها، لكنها تردها إليّ، وحجتها أنها لا تزال تعمل وفق القانون القديم».
إلى هذا الحد تبدو الصورة مبكية، غير مضحكة أبداً. إلى هذا الحد تترك أمور الناس ومعاملاتهم اليومية رهن اجتهادات شخصية وتعنّت إدارات، في مسألة ليس بالإمكان المزاح فيها، لأنها باتت تتصل بسيارات مفخخة. سيارات تصبح مع مرور الوقت مزورة، وسيلة جريمة لا نقل، وأحياناً تستحيل عبوات ناسفة تحصد أرواح الناس. وبالتأكيد مع إجراءات كهذه، في ظل نظام كهذا، سيبقى القاتل، دائماً، مجهولاً.