من دون تنسيق، ضربت هيئات أصحاب العمل والرساميل وهيئة التنسيق النقابية موعداً واحداً للاستنفار: 4 أيلول. الطرفان المتنازعان على عناوين اقتصادية واجتماعية تجمعهما اليوم رغبة بملء فراغ قاتل تركه غياب الدولة. منذ الآن، لا يريد أي منهما أن يكون دوره رديفاً. هكذا، قفزت هيئة التنسيق إلى عنوان السلم الأهلي، واضعة سلسلة الرواتب أولوية ثانية. في المقابل، تعهدت الهيئات بأن تكون الحسيب والرقيب والمحفّز لتحريك الدورة السياسية والمؤسساتية، واضعة تأليف الحكومة في رأس لائحتها المطلبية.
رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس يبدو على الأقل مقتنعاً بأنّ «الحكومة هي بالحد الأدنى مفتاح قد نجد بوجوده بعض الحلول وبغيابه لا يمكن أن نجد أي حل». برأيه، «هي السلطة الوحيدة التي تستطيع أن توفق بين مقتضيات الأمن والاقتصاد والمجتمع وأن توازن بين الهيئات الاقتصادية والنقابات». يسارع إلى القول إننا «لم نضع توصيفاً سياسياً للحكومة المقبلة. مطلبنا أن تلبي طموحات جميع اللبنانيين».
المسألة أعمق من مجرد تأليف حكومة على قاعدة: اخرج لأجلس مكانك، يقول رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي حنا غريب. ليس مقبولاً، بحسب ابرز القادة النقابيين اليوم، «الاستمرار بالسماح للمسؤولين السياسيين بالتقاتل والتصالح على حساب الناس الذين يدفعون الثمن في السلم والدم في الحرب. مطلوب الضغط باتجاه تخلي هؤلاء عن الارتهان للمرجعيات الخارجية إذا كانوا يريدون فعلاً تحمل مسؤولياتهم في تحصين الوضع الداخلي». يذهب غريب إلى أبعد من ذلك ليطالب بسلطة شعبية من القوى الحية في المجتمع من هيئة التنسيق والنقابات العمالية ونقابات المهن الحرة وقوى المجتمع المدني والهيئات الشبابية والطلابية لبناء خط دفاع ثانٍ هدفه تحصين المجتمع اللبناني ومواجهة الموت البطيء للمؤسسات الدستورية الرسمية. يستشهد هنا بالنموذجين المصري والتونسي إذ استطاع القضاء المصري واتحاد الشغل في تونس التخفيف من حدة الانهيار السياسي.
ماذا عن دور هيئات أصحاب الرساميل هنا؟ لا يميّز غريب بين الهيئات والمسؤولين السياسيين، «فالطرفان شريكان في إيصال البلد إلى هذا الانهيار، وبالتالي الانتقال بلبنان من بلد طائفي إلى بلد المواطنة يحتاج إلى حاملة شعبية واجتماعية».
يستفز الكلام شماس فيقول: «ليس هناك تواطؤ بيننا وبين أهل السياسة بل كنا أول من اتهمهم بالتقصير والتخاذل بل وجدنا أن الحكومة انصاعت لإرادة النقابات في ما يخص السلسلة التي ستقود البلد إلى الانهيار». ويردف: « لسنا منتحلي صفة ونشكّل أم الصبي مع القوى الحية في هذا البلد».
يتفق شماس مع غريب في أنّ الدولة هي الغائب الأكبر. يقول إن « إضرابنا ليس له أي صبغة سياسية بل يوحّد طرفي الانتاج على أولويات وطنية، وقد لمسنا تجاوباً من الشركاء في الإنتاج أي الاتحاد العمالي العام وهيئة التنسيق على الرغم من الاختلافات في وجهات النظر بشأن الأمور المطلبية. الوحدة بين الشرائح الاجتماعية والاقتصادية تحققت حتى قبل موعد التحرك. وهنا نثني على ما فعلته هيئة التنسيق بوضع الخلاف الحاد بشأن سلسلة الرواتب جانباً ورفع عنوان جامع هو السلم الأهلي».
يوضح غريب أنّ ما «نفعله هو ترتيب أولويات ودفع الأمور باتجاه المناخ الطبيعي وطرح مسار بديل للفتنة وليس التخلي عن المطلب الأساسي وهي سلسلة الرواتب. صحيح أنّ خطورة الوضع الأمني طغت على القضية المعيشية، لكن المسألتين ليستا مفصولتين فالفقر يولّد الانتحار أو الإرهاب والاثنان مدانان».
أما التقارب بشأن الأولويات الوطنية فلم يغيّر الموقف المبدئي للهيئات الاقتصادية حيال رفض تمويل سلسلة الرواتب وستتابع، بحسب شماس، حراكها في هذه المسألة بناءً على التطورات. برأيها، أثبتت الأيام «صوابية الحجج العلمية التي قدمناها بشأن تأثير السلسلة على نسبة النمو وصعوبة تحمل زيادة الأجور في مؤسسات القطاع الخاص والتعسر المالي في خزينة الدولة قبل العلاوات التي تنص عليها السلسلة». يستدرك: «الاقتصاد الوطني بوضعه الحالي لا يحمل هذه السلسلة ويجب أن تنصبّ الجهود باتجاه تكبير حجم الاقتصاد وزيادة الإنتاجية، على أن تأتي الزودة في أوانها. نُقر بحق موظفي القطاع العام بالعيش الكريم وبأنهم الشريك الاستراتيجي في بناء الاقتصاد الوطني، لكن شرط الكف عن التعاطي معنا كمصاصي دماء».
يسأل غريب: «كيف يمكن تحقيق ذلك والتجار لا يكفّون عن رفع الأسعار؟».
يجيب شماس: «الكلام على رفع الأسعار ظلم، وإذا كان هناك من تضخم موضعي في بعض المواد الأولية فهذا ناتج من الارتفاع في الأسعار دولياً في بلد المنشأ، وهذا ما يسمى بالتضخم المستورد. أما القطاع التجاري فيعاني برمته من كساد موصوف وتراكم للمخزون والسلع غير المباعة. هذا الأمر يجعلنا نزيد الحسومات والخفوضات والتصفيات التي تصل الى ـ70 %، وهذا النقيض تماماً لارتفاع الأسعار. الشعارات التي ترفعها النقابات لا تصلح في كل المواسم وحالياً هناك تقويض لمبيعات التجار وتبخر لأرباحهم». لا يتردد شماس في القول إنّ «الموظفين سيكونون أول من يسدد الفاتورة المرّة عند أي انتكاسة أو مشكلة نقدية». يدعو إلى قراءة جيدة لما حصل في العام 1992 عندما بقيت رواتب القطاع العام بالليرة اللبنانية في حين تدولر الاقتصاد المتكوكب حول نشاط القطاع الخاص. يؤكد «أهمية الاقتداء بالنموذج الألماني، ففي ألمانيا ارتفعت الأجور بين عامي 1999 و2013 بنسبة 13% فقط، ما جعلها تحافظ على قدرتها التنافسية وتخرج من الأزمة المالية التي هزت العالم بالحد الأدنى من الأضرار على اقتصادها ومجتمعها، فالمطلوب هو التواضع والاعتدال المطلبي والاجتماعي حفاظاً على كل شرائح المجتمع اللبناني».
يرى شماس أنّ هناك «مساحة مشتركة نستطيع أن نتحرك فيها مع النقابات»، نافياً أن تكون هناك خطة مسبقة بل أفكار ستخضع لامتحان الواقع. كيف؟ وهل تتوقعون التزاماً كبيراً بإضراب الأربعاء؟ يجيب: «سنعقد اجتماعاً تقييمياً في يوم الإضراب وعلى كل حال نحن واقعيون لذا نتوقع أن تكون نسبة الإقفال مقبولة وإن كنا نتمنى أن تتحكم روح المسؤولية عند الزملاء لعدم الانجرار وراء أي اعتبارات سياسية، لكننا نقول أيضاً لمن يجد نفسه مرتاحاً ومطمئناً فليفتح أبواب مؤسسته شرط أن لا يشكو إلينا الكساد في اليوم الثاني».
برأي غريب، الأولوية القصوى أن تعلن روابط الموظفين نفسها نقابات تستطيع أن تؤدي دور الشريك في حماية الناس، فلو كانت كذلك ولو كانت السلطة تعترف بها كشريك بموجب اتفاق قانوني لما تم تقويض تحرك السلسلة ولجرى استثماره ولما ذهب مثل الغيمة.