هل من المبكر الاستنتاج أن القرار السياسي الأردني يتجه صوب مغامرة التدخل المفتوح في سوريا؟ حتى الآن، هناك المؤشرات التالية على ذلك: (1) السماح بتهريب أسلحة متوسطة من بينها مضادات دروع إلى الجماعات المسلحة في حوران السورية، (2) استضافة غرفة العمليات السعودية المخصصة للتدخل الأمني في سوريا، والمشاركة في أعمالها، (3) اطلاق حملة التهويل على دمشق، في ملف مخاطر السلاح الكيماوي، (4) الضلوع في خطة قيد التداول لتجهيز «جيش وطني» سوري من عناصر غير إسلامية هدفه الاستيلاء على منطقة جنوب سوريا، وإقامة حكومة «ذات صدقية» فيها.
وهكذا، ربما نكون عشية انقلاب في السياسة الأردنية، إزاء الحرب السورية. وهو انقلاب يجد، في التغييرات الإقليمية الحاصلة، سياقاً ملائماً؛ (1) فقد انتقل الملف السوري من قطر المعادية إلى السعودية الحليفة، وباتت الأخيرة أكثر تصميماً، من أي وقت مضى، على العدوان على سوريا (ولبنان المقاومة)، (2) وسقط حكم الإخوان في مصر، ومع سقوطه، تراجع الخطر الداخلي الذي كان يشكّله إخوان الأردن، ويلزّ النظام إلى التفاهم مع الحركة الوطنية المؤيدة لسوريا، (3) وبالنظر إلى الخلاف الحادّ بين السعودية وتركيا حول الشأن المصري ــــ من بين شؤون أخرى ــــ والتحالف العراقي السوري، وهشاشة قوى 14 آذار في لبنان، لم يعد، هناك، حدود صالحة للقيام بمشروع سياسي عسكري كبير ومنظّم، كالذي تسعى إليه السعودية في سوريا، سوى الحدود الأردنية.
يبرز، هنا، الدور الأساسي ــــ والممكن ــــ للحركة الوطنية الأردنية في مجابهة وإفشال استخدام الأراضي الأردنية كمنصة لحرب التقسيم في سوريا، لكن ذلك، على أهميته القصوى، لا يستبعد أهمية وضرورة العمل الدبلوماسي الجدّي، السوري والعراقي والإيراني وخصوصا الروسي، لموازنة الضغوط السعودية.
علينا أن نأخذ في الاعتبار، هنا، أن الموقف الرسمي الأردني لم يُحسَم بعد، فرئيس الوزراء، عبدالله النسور، الذي أطلق تصريحات التهويل الكيماوي، ما يزال يبدي الكثير من الحذر، ويعتبر أن معالجة الشأن السوري محكومة بالتروي والانتباه؛ فهي أشبه «بالسير في حقل ألغام ذرية». كذلك، لا تزال عمان تتعمّد القيام بمبادرات لا ترضي السعودية، وآخرها مؤتمر أقامته مؤسسة آل البيت، وحضره علماء مسلمون من شتى المذاهب، للخلوص إلى رؤية اسلامية وحدوية مضادة للتكفير. وفي كلمته أمام المؤتَمرين، أمس الثلاثاء، خطب الملك عبد الله الثاني، بما يزعج السعوديين، فقال: «وأنا حريص على العمل معكم لتنفيذ كل ما يصدر عنكم من مبادرات تخدم أمتنا الإسلامية، وتؤكد على وحدتها، وعلى عدم تكفير المسلم للمسلم، واحترام أتباع المذاهب الثمانية من السنة والشيعة بمن فيهم العلويون والإباضية، ومن السلفيين والصوفيين».
طوال سنتين ونصف سنة من أسوأ الأوقات على كل المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، أدارت عمّان أزمة المملكة مع الملف السوري، بنجاح؛ عاندت الضغوط، واستجابت لها، ثم تراجعت، وفتحت خطوط اتصال متوازية بين أطراف الحرب، واتخذت موقفاً محايداً إزاء التعبيرات المحلية المنقسمة حول الموقف من سوريا، ودرّبت مقاتلين، ثم أوقفت البرنامج التدريبي، وغضّت البصر عن تهريب السلاح عبر الحدود، من دون أن تسمح بالأسلحة الثقيلة، ثم أغلقت المعابر، ثم شغّلتها، وهلّلت للاجئين، وحاولت استخدامهم لاستجرار الدعم المالي والسياسي، ثم أوصدت الأبواب أمامهم، وساعدت المسلحين أحياناً، وفي أحيان أخرى ساعدت على محاصرتهم وهزيمتهم، كما حدث في معركة «خربة غزالة» في الربيع الماضي.
طوال سنتين ونصف سنة من نهج «الكلمات المتقاطعة»، لم يكن أحد راضياً عن عمّان بالقدر الكافي، ولم يكن أحدٌ ــــ باستثناء قَطر ــــ غاضباً منها بالقدر الكافي، ثمّ لم يكن أحد ليفهمها؛ ففي أروقة الدولة العميقة، أصدقاء لسوريا الدولة، وفي السياسات تناقضات متتابعة ومتزامنة، وفي التصريحات كلام موزون، وآخر باهت، وثالث عدواني.
هل كانت هذه لعبة متقنة من توزيع الأدوار؟ كلا؛ فهذا التصوّر للسياسة الأردنية حول سوريا، ينطلق من القول بانعدام السياسة في البلد، فكأنه مبرمج، مجتمعاً ونظاماً ومؤسسات وقوى ومعارضات، حاسوبياً، بما يخدم أهدافاً غامضة.
في الأزمة السورية بالذات، أظهرت الدولة العميقة، نفسها وقدرتها على التأثير في صنع القرار؛ ذلك الطاقم من رجال الدولة المتعددي الصلات بالحركة الوطنية، والقيادات الشعبية والعشائرية والثقافية، والمؤسسة العسكرية والأمنية. الكتلة التي تكوّنت لمنع التورّط في سوريا، شملت المتناقضات التي تكوّن، في النهاية، مروحة القوى التي تضع في اعتبارها المصالح الوطنية العليا فوق الاعتبارات الأيديولوجية والسياسية. ولا يختلف اثنان من هذه الكتلة على أن سوريا الدولة الموحدة القومية المدنية، هي ضمانة وجود للدولة الأردنية، وأمنها الوطني.