إثر أحداث 11 أيلول 2001 بفترة وجيزة، وجّه رئيس الحكومة آنذاك الرئيس رفيق الحريري دعوة إلى مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني وكبار المفتين وقضاة الشرع والمشايخ إلى لقاء في قصره في قريطم، وذلك بعدما صدرت مواقف عن بعض المشايخ «تبارك» التفجير الذي أصاب مبنى التجارة العالمي في نيويورك على أيدي تنظيم القاعدة.
داخل القاعة التي غصّت بأصحاب العمائم، اندفع بعض المشايخ نحو المفتي قباني كي يعبّروا له عن اعتراضهم على شكل اللقاء، وقولهم: «أما كان من الأنسب والأكثر لياقة أن يُعقد اللقاء في دار الفتوى وليس هنا؟»، لكن قباني الذي كان يومها على علاقة ممتازة مع الحريري وحاشيته السياسية، تجاهل الاعتراض.
في ذلك اللقاء الموسّع، وبعد اعتلاء الحريري المنبر، توجّه بالسؤال إلى المفتي قباني: «من هي مرجعية المسلمين السّنة في لبنان يا سماحة المفتي؟»، فلم يتردد الأخير بالرد: «رئاسة الحكومة هي مرجعية السّنة في لبنان»، قبل أن يضيف عبارة أخرى: «أنتم يا دولة الرئيس».
إنّ من يستعيد هذه الرواية اليوم لا يقصّها كي يفتح صفحة موقف الحريري ومشايخ السّنة من أحداث 11 أيلول 2001، فتلك قصة أخرى برأيه، بل ليخلص إلى أن رئاسة الحكومة، كائناً من كان فيها، كانت هي المرجع الفعلي لدار الفتوى، وأن المرجعية الدينية للسّنة في لبنان لم تكن يوماً فوق المرجعية السياسية، لكنّ العكس هو الذي كان يُترجم على الأرض.
يُفسّر هذا الواقع ويرسّخه أن أغلب معاملات دار الفتوى الإدارية والمالية لا تصبح نافذة إلا بعد موافقة رئاسة الحكومة عليها. هذا الواقع القانوني كان يُجبر دائماً المفتي على مراعاة الرئاسة الثالثة، وأن يحسب ألف حساب إذا فكّر في الخروج عليها.
قباني لم يخرج عن ذلك قطّ؛ إذ طوال وجود آل الحريري أو من يمثلهم في السرايا الحكومية، أي الرئيس فؤاد السنيورة تحديداً، لم «يخربط» في هذا المجال. بقي ملتزماً هذه الأصول والأعراف، ومراعياً لها إلى أبعد الحدود.
بعد عودة الرئيس نجيب ميقاتي مطلع عام 2011 إلى رئاسة الحكومة، التزم قباني هذا العرف، ووقف إلى جانب ميقاتي، لكونه رئيساً للحكومة، في وجه تيار المستقبل، ما جلب على المفتي نقمة التيار الأزرق الذي قرر إطاحته. فكان أن فتح ملفاته المالية والإدارية، وصولاً إلى حدّ التشهير به، ما جعل القضية تأخذ أبعاداً شخصية أكثر منها سياسية أو قانونية.
منذ اليوم الأول لعودته إلى الرئاسة الثالثة، سار ميقاتي على خطى أسلافه لجهة رعايته دار الفتوى والمؤسسات الدينية التابعة لها، لأن الدار وملحقاتها تشكل، في عرفهم، غطاءً دينياً لهم يتدثرون به عند «الحشرة»، وهو ما فعله المفتي عندما عارض بشدّة محاولة «المناصرين الزرق» اقتحام السرايا بعد اغتيال اللواء وسام الحسن.
لكن قبّاني لم يكن برغم ذلك طوع بنان ميقاتي كما كان أيام الحريري ونجله سعد، ولا حتى أيام السنيورة. على مهل، حاول ميقاتي استيعاب «تمرّد» قباني عليه، عندما طلب منه عدم إجراء انتخابات المجلس الشرعي ورفضه له، ولما أفهمه مباشرة أو بالواسطة أن سعيه إلى التمديد لنفسه بعد انتهاء ولايته العام المقبل لن يمرّ؛ لأن أحداً لا يقبل به، ولا إجراءه تعيينات إدارية في دار الفتوى في بيروت أو المناطق، فعمل على قطع الطريق عليه بهدوء.
وفق أسلوبه الخاص، واجه ميقاتي أزمة دار الفتوى ومفتيها، إذ بعد تجديده سنة لمفتي صيدا الشيخ سليم سوسان رئيساً لدائرة أوقاف عاصمة الجنوب، وجعل تعيين قباني بديلاً منه فارغاً من مضمونه عملياً، استطاع مع سواه إقناع خمسة من أعضاء المجلس الشرعي الجديد بتقديم استقالاتهم، ما جعل التئام هذا المجلس متعذراً لافتقاده النصاب القانوني.
للخروج من هذا المأزق، طرحت شخصيات شكلت ما أطلق عليها اسم «لجنة حكماء» مبادرة لإنقاذ دار الفتوى من واقعها الحالي، وحفظ موقعها ومقام المفتي معاً. تقضي المبادرة وفق مصادر اللجنة «بحلّ المجلسين الشرعيين القائمين، والدعوة إلى إجراء انتخاب مجلس جديد، يسيّر شؤون دار الفتوى، بالتعاون مع المفتي قباني، إلى حين انتخاب مفتٍ جديد العام المقبل».
برغم أن المصادر لا تعلق آمالاً كبيرة على المبادرة، لكنها تعتبرها «مخرجاً مقبولاً للجميع»، لأن البديل منها سيكون «مقاطعة شبه كاملة للمفتي، وجعله معزولاً»، موضحة أن عزل المفتي «أمر لا يقبل به المشايخ؛ لأنه قد يشكل سابقة تعتمد لاحقاً». وتضيف المصادر أن رئاسة الحكومة «قد تضيّق على المفتي أيضاً إذا بقي مستمراً في عناده، ولم يتجاوب مع طروحات الحل، عبر توقيف المصاريف المالية والإدارية التي لا يوافق عليها ميقاتي»، لكنها استدركت أن قباني «احتاط على ما يبدو لهذه الأزمة، فأنشأ سابقاً ما يُسمّى صندوق الدعاة الذي يقال إن موجوداته المالية «محرزة»، ويتحكم بها قباني وحده».
أمام هذا الوضع المعقد، رفض رؤساء الحكومات السابقون، الذين التقوا في منزل الرئيس عمر كرامي قبل أيام، دعوة السنيورة إلى عزل المفتي وتعيين بديل له، لعدم التوافق على الأخير، ما دفع كرامي، الذي له مآخذ أكبر من سواه على قباني، للرد على طروحات السنيورة قائلاً: «إذا رفض التنحي فهل نرسل إليه عناصر الدرك لإخراجه من دار الفتوى، وإذا عُيّن مفتٍ جديد وبقي قباني متمسكاً بمنصبه، فماذا نفعل؟ نحن بمجلسين شرعيين نعاني من مشكلة كبيرة، فكيف الحال إذا أصبح عندنا مفتيان؟».
لما وجد السنيورة أن قرار عزل قباني ليس بيده، وأن رؤساء الحكومات السابقين لم يتجاوبوا معه، سعى إلى رمي «كرة نار» دار الفتوى والمفتي بين أيديهم، عندما نقل عنه قوله إن «ما يتوافق عليه عمر كرامي ونجيب ميقاتي أوافق عليه»، لكن الأخير لم يتأخر في ردّ الكرة إلى ملعب السنيورة، عندما ردّ عليه: «وأنا أوافق على ما يتوافق عليه المشايخ وقضاة الشرع؛ لأن القضية تعنيهم كما تعنينا».