في منزل متواضع يبعد عشرات الأمتار عن محطة سكة الحديد في رياق، يقطن أسعد نمرود، لم يبخل الرجل بسرد أدق التفاصيل عن مهنة عشقها وأتقن ممارستها لعدة عقود من الزمن.«إذا سنحت لي الفرصة لن أتردد لحظة بقيادة القطار، وأتمنى ذلك حتى ولو لدقائق قليلة قبل أن أنتقل الى دنيا الآخرة»، يقول «أبو طوني» بنبرة الواثق من نفسه، ويضيف، أن مسيرة حياته مع القطار بدأت عام 1946 عند بلوغه سن 18 سنة، حين قُبل طلب توظيفه في مصلحة سكك الحديد بصفة معاون سائق.

بعد مرور ست سنوات اكتسب فيها خبرة سائق للقطار، خضع لامتحان صعب تحت إشراف مهندس فرنسي، وبعدما نجح في تخطي الاختبارات النظريّة والعمليّة، كانت رحلته الأولى كسائق في العام 1952، يوم انطلق بقطاره الذي يعمل على الفحم الحجري، من محطة رياق سالكاً سكة الحديد باتجاه سوريا مروراً بمحطات يحفوفا، سرغايا، الزبداني، دمّر، وصولاً الى تجمع القطارات في منطقة القدم جنوب مدينة دمشق. بعدها كرت السبحة وأصبح يقود القطارات في كل الاتجاهات داخل لبنان وخارجه وصولاً الى مدينة حلب.
يستحضر نمرود بحزن بعض المحطات التي رافقت مسيرته المهنيّة، أبرزها توقف حركة جميع القطارات في البقاع عام 1975 مع بداية الحرب الأهلية اللبنانيّة، بعدما تعرضت سكك الحديد للتخريب والسرقة في غير منطقة بقاعيّة:
«نقلت حينها الى بيروت لأعمل على القطارات الموزعة خطوطها الى الشمال والجنوب، وبقيت حتى العام 1990 حين توقف عمل القطارات على كل الأراضي اللبنانيّة لعدة أسباب، ظاهرها تقني وأمني، وباطنها يحمل خلفيات اقتصاديّة وسياسية»، مفضلاً عدم الدخول في التفاصيل.
«خليها بالقلب تجرح وما تطلع لبرا وتفضح» يقول بحسرة الحريص على مصلحة عاش في كنفها أكثر من نصف عمره، ساعدته على إعالة أسرة مؤلفة من زوجة و6 أولاد، بعدما كان قد ارتبط بشريكة حياته عام 1948، حين كان راتبه الشهري حوالي 125 ليرة لبنانيّة، مبلغ يعتبره أبو طوني جيداً إذا ما قورن مع مبلغ يراوح بين 30 و 50 ليرة وهو الحد الأدنى لأجور موظفي ومستخدمي القطاع العام في تلك الحقبة. «كانت أم طوني تتباهى بأن زوجها يعمل سائقاً في سكة الحديد، وكنا نعيش ببحبوحة يحسدنا عليها الكثيرون من أقاربنا وجيراننا». لم يطل سرد أبو طوني للجانب المفرح في حياته المهنية، يصمت لدقيقة، ثم يتابع حديثه بغصّة الذي لحق به الغبن «آخر معاش تقاضيته عام 1992 عند بلوغي السن القانونية للتقاعد كان 550 ألف ليرة لبنانيّة، وبلغ مجموع مستحقاتي من تعويض الصرف حوالي 40 مليون ليرة، تبخرت بكاملها في فترة قصيرة بسبب هبوط قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي الذي وصل في حينه الى عتبة الـ 3000 الآف ليرة»، لافتاً الى أن ما يخفف من أعباء معيشته حالياً، وبالأخص من الناحية الصحيّة، هو استفادته من تقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المسجّل فيه على على اسم ولده الموظف في إحدى الإدارات العامة.
يطالب نمرود الدولة بإعادة النظر بنظام تعويض الصرف، من خلال تخصيص رواتب شهريّة تقاعديّة بعد بلوغ السن القانونيّة «عتبي على دولة لا تؤمن الحد الأدنى لشيخوخة مواطنيها».
لم ينس سائق «التران» التذكير بحادثة عمل حصلت معه عام 1973 أثناء توجهه بقطاره من رياق الى بيروت، «يومها كنت ومعاون السائق لوحدنا على متن قطار يجرّ 8 فرغونات محملّة بحوالي 225 طن من مادة الفوسفات، وبعد انحدار القطار نزولاً بين الوديان، شعرت بأن السرعة قد تضاعفت بسبب الحمولة الزائدة، حيال ذلك توقفت بصعوبة في عاليه لأتفقد المكابح وأعيّرها بوضع يتلاءم مع حجم الحمولة». لم تنته الأمور هنا، يضيف نمرود، فأثناء وجوده خارج المقصورة، وبغفلة عنه، قام معاون السائق بإدارة المحرك من دون تحرير الجهاز المتصل بعجلات الدفع، ما أدى الى انطلاق القطار بسرعة بطيئة، عندها، وبسبب قلّة خبرته في القيادة، قفز المعاون من المقصورة تاركاً القطار الذي اندفع بسرعة هائلة على طول مسافة سكة الحديد الممتدة من عاليه وصولا الى منطقة سهلية في عاريا حيث ساعدت طبيعة الأرض المرتفعة في توقفه هناك، «خضعنا على أثر الحادثة لتحقيق إداري، بعدما صرحت صاحبة منزل أمام المحققين بأن القطار كان يسير لوحده من دون سائق، ما اضطرني يومها الى نفي ذلك لأحمي زميلي معاون السائق من المطالبة القانونيّة ومرّت الأمور على خير»، مشيراً الى عدة حوادث حصلت معه خلال رحلاته، من بينها التسبب عن غير قصد بنفوق أعداد غير قليلة من رؤوس الماعز والأغنام والجمال والخيول التي كان يصادف عبورها على خطوط سكك الحديد، بالإضافة الى اجتياح عدد من السيارات التي يركنها أصحابها بمحاذاة هذه السكك، لافتاً هنا الى انتفاء مسؤوليته إزاء هذه الحوادث، لأن قوانين سير القطارات تلزم العامة بضرورة الابتعاد عنها، والتقيد بأنظمة عملها وبالأخص عند سماعهم صفارات الإنذار التي تطلقها بشكل متواصل قبل وصولها الى أمكنة تتقاطع فيها الطرقات مع سكة الحديد.
يروي نمرود قصة طريفة حصلت في محطة رياق في مطلع ستينيات القرن الماضي، بطل القصة صاحب قطيع من الماعز كان قد حمّل أعداداً منها مع حماره في «الفرغونات» تمهيداً لنقلها من رياق الى عاليه، وبعدما دفع أجرة الحمولة طالبه الموظف بثمن بطاقة تخوله السفر على متن القطار، فما كان منه إلا أن رفض ذلك، مفضلاً الركوب على ظهر حماره الذي لم ينزل عنه طوال مدة الرحلة.



قطار أستراليا

قبل نحو عشر سنوات سافر أسعد نمرود الى أستراليا لزيارة ابنته المقيمة هناك. أول جولة سياحية قام بها، كانت زيارة لمحطات القطارات، اهتمامه اللافت بالأخيرة، جعله محطّ أنظار المسؤولين الذين ما أن علموا بطبيعة عمله سمحوا له بقيادة قطار قديم، إضافة الى تكريمه بالحصول على بطاقة مجانيّة تخوله التنقل بجميع أنواع القطارات.