كم ضحية ستسقط قبل العثور على جانٍ واحد في رحلة البحث عن المآسي المتكررة على أبواب المستشفيات وفي كواليسها؟ سؤال طرحه رئيس بلدية برج العرب العكارية عارف شخيدم بعد وفاة ابن بلدته الطفل مؤمن المحمد، لأنه لم يكن في جيب والده مبلغ «التأمين» المطلوب لدفعه في صندوق الطوارئ. وعندما ساند والد الطفل في تقديم شكوى لدى النيابة العامة، لم يكن يود «الاقتصاص من المتسببين بالوفاة»، بقدر «الخوف من تكرار محتوم لحوادث مماثلة، إذا لم تتخذ تدابير استثنائية وعاجلة لتلافيها».
خشية رئيس البلدية مبنية على أكثر من سابقة مماثلة، كان آخرها وفاة امرأة من بلدة النبي يوشع في احد مستشفيات الشمال نتيجة «إهمال المستشفى»، وكالعادة فشل ذوو الضحية في إثبات واقعة الإهمال (رغم وضوحها) أمام المحاكم المختصة.
مأساة جديدة تسطرها مستشفيات الشمال، حيث لم تمض على ولادة ثلاثة توائم سوى لحظات، وبدل استقبال التهاني بالمولودين الثلاثة الجدد، كانت الوجهة نقلهم بسرعة مثالية إلى مثواهم الأخير، حتى أنه لم يتسنّ لهم إجراء تحقيق قبل دفنهم. كيف ذلك؟ وأهلهم الفقراء لم يجدوا مستشفى يستقبل أمهم قبل الولادة، فمن أين لهم أن يدفعوا فاتورة مكوثهم ليلة أو أكثر في براد المستشفى بانتظار انتهاء التحقيق؟
كالعادة، المسؤولية تقع على عاتق الضحايا. لا طبيب مسؤولاً، ولا نقابة أطباء، ولا مستشفى ولا وزارة صحة، فبالنهاية المرأة فلسطينية، والأب من فقراء بعلبك، حط به القدر ليسكن ويعيش بين أشباهه في أحياء طرابلس الشعبية. لا صوت المرأة الثكلى بفقدان أطفالها الثلاثة يسمع، ولا وعيد الأب بتقديم شكوى يثير أي ردة فعل.
تقول العائلة الثكلى انها عانت كثيرا قبل الوصول الى مستشفى في زغرتا حيث وُلد الاطفال ميتين، الطبيب المسؤول عن متابعة الحمل طيلة 7 اشهر تهرّب من مسؤوليته والمستشفيات رفضت استقبال الام الحامل على الرغم من حراجة وضعها، وهو ما بات ثابتا في موت الاطفال.
الا ان حجة القوي بمثل مكانته، ما يمكّن الطبيب س. م.، المتابع لحالة الأم، من تقديم التقارير وصور الأشعة لنفي «مزاعم» الأم. يقول الطبيب في اتصال مع «الأخبار» إن أوزان الأجنة لا تسمح بولادتهم أحياء ((invivables حتى لو توافرت لهم حاضنات صناعية (couveuses)، فالصور سمحت بتقدير أوزانهم بين المئتين والثلاثمئة غرام، وينفي الطبيب خبر امتناعه عن التواصل مع والد الأطفال كما ادعى الأخير، مؤكداً أنه هاتفه رن أربع مرات، خلال تجواله بحثاً عن مستشفى يستقبل زوجته. ويؤكد الطبيب أن المستشفى الإسلامي لم يتمكن من استقبال المرأة لأنها كانت ممتلئة (بحالات مماثلة)، ولأن المرأة فلسطينية فقد اتصل بالمراكز الطبية التابعة للأمم المتحدة ولم يوفق بحل مشكلتها، ومع ذلك حاول أن يؤمن لها مستشفى آخر فلم يفلح، علماً بأن تأمين المستشفى «ليس على عاتقي»، وهو «مرتاح لقيام الأهل بتقديم شكوى، ولو كنت مخطئاً لاعتذرت».
بدورها، لم تتخذ نقابة أطباء الشمال أي إجراء، باستثناء مكالمة هاتفية أجراها النقيب إيلي حبيب مع الطبيب المعالج س. م. لسؤاله عما حدث. وخلال المكالمة «استشف» النقيب أن الطبيب المسؤول «لم يقفل هاتفه، كما لم يقل لهم أنا غير مسؤول» وقال للزوج إنه لا يستطيع متابعتها إلا في المستشفى الإسلامي، كونه متعاقداً معها، وبما أن المستشفى لا يوجد فيه مركز عناية مركزة للأطفال، فقد طلب من الطوارئ التواصل مع مستشفى آخر يوجد فيه مركز عناية. ولئن كان حبيب «لا يبرئ الطبيب ولا يجرّمه»، إلا أنه يشير إلى أنه «بالحديث الشفهي لا يمكن الحكم على الطبيب المسؤول بأنه مخطئ، ومن المفترض أن يحضر اليوم إلى النقابة ونأخذ أقواله، وإذا كان هناك سلوك مغاير للأخلاق الطبية، فسنتخذ بحقه الإجراء اللازم، إما إنذاره أو تحويله إلى المجلس التأديبي». ولكن في حال لم تثبت مخالفته «الأخلاق الطبية»، فالنقابة تكتفي بحفظ الإفادة وانتظار رفع الأهل دعوى إلى جلسة التحقيقات المهنية في النقابة للمباشرة بالتحقيقات. وفي حال تقدم هؤلاء بشكوى إلى القضاء، فمن المفترض أن يحول الأخير للتحقيق فيها.
وأشار حبيب إلى أنه في هذه الحادثة، لا تقع المسؤولية على الطبيب في أمور التحويل، وبما أن المستشفى الإسلامي بلا مركز عناية مركزة للأطفال، يفترض في هذه الحالة أن يتصل طبيب الطوارئ بالمستشفيات التي تتوافر فيها تلك المراكز.. وهو ما فعله، ولكن «لم يكن هناك مكان واحد في أي من تلك المستشفيات، وإذا كان الطبيب سيخضع المريضة للولادة في المستشفى الإسلامي ونقل الأطفال إلى مركز في مستشفى آخر، وهو أصلاً بعيد، فمن الأكيد أنهم سيموتون على الطريق».
ويختم حبيب، إن «المشكلة ليست في الطبيب ولا في المستشفى، وإنما مشكلة منطقة الشمال بكاملها التي تعاني نقصاً في مراكز العناية المركزة للأطفال، وهي غير موجودة إلا في أماكن محددة، وهي دائماً ممتلئة».
من جهتها، تنفي وزارة الصحة مسؤوليتها عن الحادثة، ولا تحملها للمستشفى، بينما تتساءل عن تصرف الطبيب، وبهذا الصدد يشير وزير الصحة علي حسن خليل إلى «أنني أرسلت رئيس مصلحة الشمال أمس ليعد تقريراً، لنرى ما إذا كان هناك مسؤولية في مكان على المستشفى، ومن المفترض أن أحول الموضوع بعد الاطلاع على التقرير إلى نقابة أطباء الشمال للتحقيق، ولكن بالنسبة لما يتبين لنا، لا مشكلة في الدخول إلى المستشفى على حساب الوزارة»، ويختم «امرأة حامل بثلاثة توائم مرتبطة بحكيم معين وليس بمستشفى».
يبدو أن المنازلة ليست على مستوى القرائن والدفوع القضائية، بقدر ما هي على مستوى موازين القوى الاجتماعية المتخاصمة، اذ بات ذوو الضحايا يدركون مسبقاً أنهم على باب نزاع لن يحسم لصالحهم. فما قاله ذوو الطفل مؤمن المحمد، يقوله الآن أهل رولا يعقوب، هؤلاء يتوقعون ان ينجو الجاني من فعلته، طالما ان هناك شكوكا جدّية في نتائج عمل الاطباء الشرعيين. وهذا ما يقوله ايضا الشاب ربيع الاحمد الذي عبّر شقيقه المصدوم عن قهره بالقول «إن أقصى ما نريده هو تأمين كلفة العلاج لشقيقي القتيل الحي»، والآن تقول العائلة الثكلى الكلام نفسه. حادثة تطوي أخرى، بما في ذلك إلقاء عشرات الجرحى السوريين خارج مستشفى المنية على قارعة الطريق، وفي وضح النهار، وعلى عين كل من شارك وساهم وتاجر بمأساة الشعب السوري، بمن فيهم نواب المنطقة والنافذون فيها. الم يحن الوقت للصراخ بصوت واحد: صحّتنا ليس حصة احد... نريد التغطية الصحية الشاملة الان وفورا وغصبا عن جميع القتلة.