اللبنانيون على فايسبوك غاضبون. رجال ونساء يريدون الاقتصاص من القاتل وتحقيق العدالة لرولا يعقوب التي قتلتها وحشيّة زوجها. الكلّ يندّد ويستنكر ويشتم الجاني ويعيب الدولة التي ترضخ للضغوط ولم تستطع حتى الآن السير خطوة واحدة نحو حماية نسائها بإقرارها قانون حماية النساء من العنف الأسري.
لوهلة تعتقد أنّها اللحظة المرجوّة منذ وقت طويل لشحذ همم الناس، واستثمار هذا الغضب وتحويله إلى قوّة فاعلة للضغط على سياسيي هذا البلد وتحقيق انتصار واحد منتظر منذ وقت طويل في قضيّة تخص حقوق النساء. هكذا قرّرت أربع ناشطات، رويدا مروّة، حياة مرشاد، علياء عواضة وزينة إبراهيم، أن يتلقّفن الحماسة المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي ودعين إلى اعتصام أمس تحت شعار «صمتكم/ن يقتلهنّ يومياً» من أجل إقرار قانون حماية النساء من العنف الأسري في مجلس النواب. لكن على أرض الواقع صمت الناس.
قد يناقش أحدهم هنا في توقيت الاعتصام والسرعة التي تمّت فيها الدعوة، فحرمت العديد من المشاركة. لكن مشاهد الاعتصامات السابقة تفصح أنّ العائق ليس فقط التوقيت، بل أنّ الناس أصبحوا أيضاً يشبهون سياسييهم. فغالباً ما يندّدون ويدينون ويتأسّفون على صفحاتهم الافتراضيّة، من دون أن يتحرّكوا. لم يبلغوا ثورتهم المفترضة وتركوا بضع ناشطات وحدهنّ يلبّين الدعوة ويشاركن في الاعتصام. وليس الأمر مستهجناً، فغالباً ما تُترك قضايا النساء وحيدة. لا يحدث ذلك بدون أن تكون الجمعيات النسائيّة مسؤولة بنحو مباشر عن ذلك، لكن المسؤوليّة الأكبر لا بد أنّها تقع على عاتق مجتمع يثبت يومياً، وبعد كلّ جريمة عائليّة ترتكب بحقّ امرأة، أنّه عنيف وذكوريّ حتى العظم، وأنّه حاضن للأفكار البالية التي ما زالت، وإن بأشكال حديثة، تجيز عبوديّة المرأة. هذه العبوديّة التي يصرّ المجتمع على تكريسها من خلال الـ«ضرورات الاجتماعيّة»، كالحفاظ على «أنوثة» المرأة و«رجولة» الرجل، وما بينهما تضيع إنسانية الاثنين. من هنا مثلاً يحاول بعض المدافعين عن حقوق المرأة ثني الرجل «المعنِّف» عن ضرب أو قتل زوجته، باجتراح بعض التصاوير الشعريّة له عن رقّة المرأة، «هذه الوردة»، التي يجب الحفاظ عليها، أو في محاولة للتخفيف من حقد بعض الرجال وعنفهم، غالباً ما يُخاطب هذا المجتمع الذكوري من على المنابر الإعلاميّة بـ«تخيّل أنّ تلك التي تُعنّف أو يُتحرّش بها أو تُغتصب هي أمّك أو أختك». هذا ليس إلا تأكيداً على أنّه ليس هناك ثقة بكون الرجل في مجتمعنا قادراً على التعاطي مع المرأة كإنسان مثله، فما زال قاصراً يحتاج كالأطفال إلى تشابيه تمسّ حياته الشخصيّة كي يرتدع عن عنفه. حتى إنّ بعض المعنِّفين تجاوزوا الخطوط الحمر التي ترسم في تلك الجمل الإعلاميّة؛ فبعضهم من ضرب، وقتل أمّه وأخته وابنته «في نوبة غضب أو في «جريمة شرف»، بمعنى أنّ العنف لا يطال فقط بنات الآخرين، كالزوجة مثلاً.
لكن من الظلم إلقاء اللوم كلّه على الرجال فقط. فنساؤنا أيضاً هنّ نتاج هذا المجتمع. خلال السنوات الماضية، التي كانت تعلو وتخفت فيها الأصوات من أجل حقوق النساء، لم نرَهُنّ يقصدن الساحات للمدافعة عن حقوقهنّ، وإن دعين إلى المشاركة فإنّ وضعهنّ يذكّر بخطبة الجهاد للإمام علي بن أبي طالب حين قال: «فإذا أمرتكم بالسير إليهم فى أيام الصيف قلتم: هذه حمارة القيظ أمهلنا يسبخ عنّا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر أمهلنا ينسلخ عنا البرد … كل هذا فراراً من الحر والقر». فحين تسأل بعض النساء اللواتي يبدين حماسة لقضاياهنّ عن عدم مشاركتهنّ في الاعتصامات الداعمة لقضاياهنّ، تجد أنّ حجّتهنّ دوماً حاضرة، فينزعجن من توقيت الاعتصامات في منتصف الأسبوع، لأنهنّ يعملن، وفي عطلة نهاية الأسبوع لأنهنّ في المسابح أو القرى... أو ببساطة في يوم راحة!
قانون حماية المرأة من العنف الأسري أصبح اليوم ضرورة. ما عاد بالإمكان التغاضي عن حيوات الناس. 24 امرأة لبنانيّة قتلن ما بين عامي 2010 و2013، كل واحدة قتلت على يد واحد من أفراد أسرتها. العديد من الرجال المتذاكين يعترضون على القانون الذي سمعوا عنه، بشكل مشوّه، من أئمّة مساجدهم أو من أقارب لهم، بالجملة الشهيرة «أصبحنا بحاجة إلى من يحافظ على حقوق الرجل». أكثر الجمل ذكوريّة تتردّد دائماً كجواب حاضر على مشروع القانون المطروح. إلا أنّ الإحصاءات تطمئن إلى أنه لا خوف على الرجل من المرأة، إذ تشير دراسة لمنظمة الصحّة العالمية إلى أنّ 40% من النساء اللواتي يتعرّضن للقتل في العالم، يُقتلن على أيدي أزواجهنّ أو شخص في عائلتهنّ، وهذه النسبة هي أعلى ستّ مرّات من الرجال الذين يقتلون على أيدي زوجاتهم. وتضيف الدراسة أنّه غالباً ما يكون سبب قتل الزوجة للزوج دفاعاً عن النفس، بينما يقتل الرجل زوجته أو صديقته بسبب الغضب أو الغيرة (أو بحجّتهما). كذلك فإنّ معظم النساء اللواتي يقتلهن أزواجهنّ يكنّ قد أبلغن الشرطة عدّة مرّات تعرّضهن للعنف الأسري.
رولا يعقوب لم تبلغ مخفر الدرك في منطقتها بما كان يفعله بها زوجها قبل مقتلها. الأكيد أنّ نساءً كثيرات غيرها لجأن إلى الدرك ليجدن أنّ كثيراً منهم لا يختلفون عن أزواجهنّ. العقليّة الذكوريّة ذاتها. يسألون المرأة: «ماذا فعلتِ حتى ضربك؟» أو «عودي إلى منزلك، لا دخل لنا بالقضايا العائليّة»! وبعد موت رولا، هناك محاولات لإنقاذ الزوج، وضغوط كبيرة للفلفة الجريمة وتغليفها بتقارير طبّية غبّ الطلب! لكنّ الأنظار اليوم موجّهة إلى جلسة اللجان النيابيّة المشتركة في 22 تموز، التي دعا إليها رئيس مجلس النوّاب نبيه بري، حيث أُدرج قانون حماية النساء بنداً أول على جدول أعمالها. فهل يجرؤ النوّاب بعد على تأخير إقرار هذا القانون؟