انفاق المغتربين هو كإنفاق السيّاح، يحتاج الى اوضاع مستقرة ليواصل تدفقه ويضخ السيولة المطلوبة في نشاطات محددة كالتجارة والسياحة والبناء والاتجار بالعقارات... هذه النشاطات لا تولّد فرص عمل لائقة او اجوراً مقبولة، وغالبا ما تتكل على «عمالة وافدة رخيصة». هذا الواقع تعاني منه منطقة بنت جبيل كباقي المناطق اللبنانية الاخرى، اذ ادّى تدهور الاوضاع السياسية والامنية الى تفويت فرصة تزامن شهر الصيام مع موسم الصيف. الاسر، كما المؤسسات، كانت تراهن على هذا التزامن لتحسين مداخيلها الا ان المغتربين جاءوا باعداد قليلة في هذا العام.
بعد ساعات الصباح الأولى، تخلو شوارع وأزقّة مدينة بنت جبيل (عاصمة التحرير) من المارّة، في الوقت الذي يتجمع فيه عدد من الشباب في بعض المواقع للتسلية وكأنهم في حال انتظار دائمة. انتظار فرصة «الهجرة»، كما يقولون. محمد بيضون، هو احد هؤلاء، «لم يجد فرصة عمل له في لبنان، رغم أنه يجيد الترجمة وفنّ البناء»، يعتمد محمد على أشقائه السبعة المهاجرين الى الولايات المتحدة الأميركية، الذين يؤمنون له مبلغاً شهرياً له ولوالده. يقول «أنتظر فرصتي في الهجرة، أما اليوم فأعمل في بيع ألعاب الحظّ كي لا أعتبر عاطلاً عن العمل».
يشير بيضون الى ان بنت جبيل وقراها تعيش على إنفاق المغتربين في الصيف فضلا عن تحويلاتهم الى ذويهم. لكن الوضع صعب في هذا العام: «قبل شهر كان عدد كبير من مغتربي بنت جبيل في أميركا، قد حجزوا تذاكر السفر الى لبنان، وهم اليوم ألغوا جميع حجوزاتهم، وكان لوسائل الاعلام دور سلبي في ذلك».
يحرص مختار بنت جبيل نمر بيضون على أن لا يثير موجة القلق من الأوضاع الأمنية المستجدة في الجنوب، الا انه يردد ان «اقتصاد بنت جبيل يقوم على المغتربين وتحويلاتهم بما سمح سابقا للشباب بالعمل وبناء المنازل والزواج والاستقرار». يضيف «جميع المقيمين هنا، وأنا منهم، يعتمدون بشكل رئيسي على ما يرسله المغتربون لهم من أموال، اما التجار وأصحاب المهن فهم ينتظرون عودة المغتربين صيفاً»، ويبيّن أن «عدد أبناء بنت جبيل اليوم، بحسب سجلّات النفوس، يقارب 60 ألف نسمة، يقيم منهم نحو 3500 نسمة، في حين ان 18000 مغترب في أميركا و12000 نسمة في أستراليا وكندا».
يتذكّر محمد صولي، أحد أبناء بلدة الطيبة (مرجعيون) عندما «حلّ التحرير في أيّار 2000، وعاد أغلب النازحين الى قراهم المحرّرة، ظنّ المقيمون في تلك القرى أن زمن الشقاء قد ولّى الى غير رجعة». يقول «أيام قليلة فقط، وعادت تلك القرى الى سكونها المخيف. لم يختلف المشهد كثيراً، سوى في زيادة عدد ورش البناء التي تشجّع أصحابها من المهاجرين والنازحين على اطلاقها بعد التحرير، على أمل العودة في يوم من الأيام. ما استدعى زيادة عدد العمّال السوريين بكثرة الى جانب المقيمين الذين لم تسمح لهم الظروف بالمغادرة أثناء الاحتلال وبعده». يضيف صولي «انظر.. ابنية كثيرة فارغة تخفي خلفها الكثير من البطالة والبؤس. هذا يدفع بالكثيرين الى السعي للحصول على تأشيرة الهجرة».
يشير رئيس نقابة أصحاب المؤسسات التجارية في بنت جبيل طارق بزي الى أن «مهرجان التسوق في بنت جبيل لن يُقام هذا العام بسبب غياب المغتربين وتوتر الأوضاع الأمنية. لقد تراجع الطلب الاستهلاكي أكثر من 50% عن العام الماضي... نحن رهينة المغتربين. صرنا كالنمل ننتظر زيارتهم صيفاً لتأمين قوت الشتاء». ويلفت مدير موقع بنت جبيل الالكتروني حسن بيضون الى ان «أعمال البناء متوقفة بالكامل، وباتت بنت جبيل ممراً فقط للعابرين الى حديقة مارون الراس المجاورة».
كانت بنت جبيل بلدة صناعية بامتياز، استقطبت في منتصف الثمانينيات 85 مصنعا للاحذية وأكثر من 200 عامل. تحوّلت هذه البلدة من تصدير انتاجها من الاحذية الى تصدير المغتربين الى بلاد الله الواسعة، لا سيما الى الولايات المتحدة الأميركية. لم يبق من معاملها سوى معملين صغيرين لا يؤمنان العمل لغير أصحابهما.
على الشارع العام لبنت جبيل المؤدي الى بلدة عيترون، يوجد محل صغير لبيع الأحذية، صاحبه أحمد كريم بزي، الذي كان يملك معملاً وسط المدينة، ورثه عن أبيه الذي أنشأ المعمل في أوائل السبعينيات، لكن بزي اضطر الى اقفال المعمل، منذ سنوات، بعد اجتياح البضائع الصينية لبنان. يقول «كانت البلدة مليئة بالمعامل، ينتج الواحد منها نحو 600 زوج من الأحذية أسبوعياً، بينها 30 معملاً داخل السوق التجاري».
يذكر غسان شرارة أنه «في الثمانينيات أحصينا عدد معامل الأحذية في بنت جبيل، فكانت 85 معملاً لأبناء بنت جبيل، لكن في العام 1985 تراجع العدد بسبب الضغط الذي مارسه العدو الاسرائيلي على أبناء البلدة». ويعتبر شرارة أن الوضع الاقتصادي يزداد سوءاً، ما يساهم في ازدياد هجرة الشباب من أبناء المدينة بحثاً عن العمل الأكثر انتاجاً، خاصة في أميركا التي يعيش فيها أغلب أبناء المدينة القديمة.
بعض أصحاب المعامل من أبناء بنت جبيل، يعملون في بيروت، ولهم معامل ضخمة ومنتجة، تؤمن العمل لعشرات العمّال، من بينها معامل الأحذية لكل من عصام سعد ووضاح الشامي وعلي جابر بزي، وانتاج أحدها بحسب شرارة «نحو 600 زوج من الأحذية يومياً والتي تصدر بأغلبها الى الخليج العربي. لذلك يجب اعادة احياء الصناعة في بنت جبيل، ليعود أهلها اليها».