لم يبق من الدولة الوطنية في العالم العربي ــــ ما عدا الخليج، حيث لا ينطبق الوصف ــــ سوى الجيوش؛ فالتنمية معطلة والاقتصادات مُعاقة والطبقة الوسطى منهارة، والمجتمع منقسم بين أقلية ــــ تمثّل تحالف رجال السلطة ورجال البزنس من وكلاء المصالح الأجنبية ــــ وأغلبية مفقَرة من الكادحين والمهمّشين الذين أخرجتهم النيوليبرالية من حماية الدولة، ومن ثم حوّلت الموارد الدولتية والادارة من رعاية مصالح المجتمع الى رعاية مصالح «المستثمرين». ولم يعد التعليم، رغم المظاهر، عاماً وعادلاً، وانما امتيازاً للمحظوظين الذين «تستثمر» عائلاتهم في تأهيلهم لاحتلال الوظائف الأعلى دخلاً والمناصب القيادية. ويعاني معظم المواطنين من ضغوط كلفة الخدمات الصحية الجيدة، بينما تحول استخدام المواصلات العامة الى معاناة يومية وشقاء.
وسط هذه اللوحة السوداء، تظل هناك مؤسسة واحدة تحافظ على نسق وقدرة وتراتبية عادلة، انها القوات المسلحة التي لا يمكنها القيام بدورها الا بالمؤسسية والتنظيم والمساواة في التأهيل والخدمات، وربط الترقية بالكفاءة والتدرج المنظم، ونبذ معايير الجدوى الاقتصادية، ومنع التمييز، وشمولية التكوين البشري على مستوى الجغرافيا والمجتمع معا. ومن الضروري التأكيد، هنا، على أن هذه الشروط ليست اختيارية، وانما حاسمة لبقاء المؤسسة العسكرية وكفاءتها. وهذا ما يجعل الجيوش مؤسسات وطنية. وقد تكون وطنية بالمعنيين (أ) كقوة معادية للامبريالية، (ب) وكقوة حديثة ممثلة للمصالح الوطنية العليا والأمن الوطني. ولكنها تظل وطنية بالمعنى الثاني دائما، حتى في حالة ارتباط المؤسسة العسكرية بعلاقات تعاون مع الولايات المتحدة.
الأهمية الاستثنائية للجيوش في صيانة الدول التي حوّلتها النيوليبرالية الى أسواق مفتوحة ومجاميع سكانية مكبوسة بالفقر واليأس والتحيزات، لا تظهر، بوضوح، الا في فترات الأزمة السياسية والأمنية.
في الدولة العربية الوطنية المنهارة، لا تعود هناك منظمات كبرى خارج الجيوش، سوى تلك التي تستخدم الايديولوجيا الدينية وآليات ادارة الفقر معاً؛ فهي تلحمهم بعصبوية تنظيمية مشبوبة بالدين، وتدمجهم في سياق ثقافي وسياسي مغلق في ظل تراتبية صارمة، وقادرة، بالتالي، على مواجهة المؤسسة العسكرية، خصوصاً أنها تكسر احتكار العسكر للسلاح.
تميل الفئات الحاكمة في بنى ما قبل الدولة في الخليج الى تفضيل المنظمات العصبوية الدينية على الجيوش ـــ العصية على الاختراق ـــ في البلدان العربية، وتموّلها، وتستخدمها كأدوات سياسية وأمنية ومليشياوية. وقد حصل تطور نوعي في علاقة الامبريالية الغربية بهذه المنظمات، فلم تعد تستخدمها فقط ضد الجيوش المعادية، كما في سوريا، وانما تفضّلها على الجيوش الصديقة ايضاً، كما في مصر، سائرة، في ذلك، وراء الخليج، بل ربما تتعداه ايضاً؛ فالسعودية التي تريد تحجيم الدور القطري الاخواني، ترى اليوم مصلحتها التكتيكية في دعم الجيش المصري ضد الاخوان، بينما نرى الولايات المتحدة، مترددة.
يمكننا ان نفهم التردد الأميركي بصورة موضوعية؛ فالقوتان القادرتان على الحكم في مصر هما الجيش والاخوان. واذا كان يمكن ترتيب ديموقراطية عسكرية تحظى بالصدقية، فان المضمون الحداثي والوطني للمؤسسة العسكرية، سيفرض مساحة أوسع من الاستقلالية والكفاءة وتوسع القوى الوطنية التقدمية، بينما الديموقراطية الاخوانية، في تعبيرها عن مصالح جزئية، وحاجتها الحيوية الى الدعم الاميركي والخليجي، تجعلها أكثر طواعية وأقل كفاءة وأكثر احتياجاً للمساعدة والدعم، مما يقلّص مساحة استقلاليتها. ولا تستطيع واشنطن الواعية بمصالحها الاستراتيجية أن تتبع الرياض في هواها التكتيكي ضد الاخوان.
أظهرت بوادر الصدام الأهلي في مصر أن الاخوان ليسوا حركة جماهيرية كما كان يبدو، وانما منظمة عصبوية كبيرة ومسلحة، وقادرة على تنظيم المليشيات ولديها الجرأة المليشيوية على استخدام السلاح. ولدينا الكثير من الأمثلة على هذا الاتجاه، لكن أخطرها التعرّض العنيف لمقر الحرس الجمهوري ( الاثنين الماضي) وما تلاه من دعاية صريحة ضد الجيش المصري، والتطاول العلني على احدى مقدسات المصريين، اي قواتهم المسلحة. ويمكن للمرء أن يقدّر بأن كل ذلك، يأتي في سياق العمل على كسر الحاجز النفسي للقتال ضد الجيش الوطني.
لفّق الاخوان صوراً لاطفال مقتولين على أيدي المسلحين السوريين، في كليب يدعي أنهم سقطوا برصاص الجنود المصريين. وقد عانى الجيش السوري من الحاق الضرر بسمعته بالاستخدام الكثيف للصور والتقارير المفبركة، على مدار أكثر من سنتين، مما أدى الى دفع المشاهد الكاذبة الى خلفيات العقول والقلوب، وأوجد السياق الملائم لتمكين مسلحي الاخوان والسلفيين من ممارسة القتل على المكشوف، وحتى تبرير التعاون مع القوى الاستعمارية ضد الجيش الوطني.
ما يطمئننا، جزئياً، على مصر، ذلك الدعم اللامحدود الذي تمنحه المعارضة الوطنية للجيش المصري في مواجهة العنف المسلح والارهاب. وهو موقف عجزت معظم المعارضة الوطنية السورية عن اتخاذه حتى الآن.