هو خبر جيد بالمطلق؛ أن ترتفع درجة المخاطر في البلاد نتيجة الأزمة الإقليمية التي تنعكس محلياً، وفي الوقت نفسه يتم الحفاظ على قدرة تأمين الالتزامات المالية، لتغذية دين عام أضحى عند 60 مليار دولار تقريباً، يُعدّ تفاوتاً إيجابياً. ولكن إلى أي مدى يُمكن المحافظة على حالة الفصام هذه؟ وهل باستطاعة مصرف لبنان أن يُكمل باللعبة حتّى النهاية؟
تأتي هذه التساؤلات بعد إصدار المجموعة المصرفية، Citigroup، تقويمها الأخير عن لبنان التي تقول فيه إنّ مؤشّر المخاطر، الذي يعكس المخاطر التي تحوق بأداء الأعمال ويشمل أيضاً الاقتصاد، الأمن، السياسة والقانون، يرتفع على نحو ملحوظ منذ عامين ولكن لا يؤثّر على مخاطر الديون السيادية ــــ أي القدرة على دفع الالتزامات ــــ ما يؤدّي إلى اتساع الهوة بين المؤشرين.
هذا الوضع معتاد في لبنان، وفقاً للمصرفيين الذين أكّدوا خلال لحظات الاضطرابات الصعبة التي شهدتها البلاد خلال السنوات الثلاث الماضية أنّ القطاع المصرفي قادر على تأمين الحاجات التمويلية للدولة وللقطاع الخاص طالما أن الودائع تستمر بالنموّ. وحتّى عندما تُحجم تلك المصارف عن الاكتتاب بسندات الخزينة (أدوات الاستدانة بالليرة) يتدخل مصرف لبنان لكي يُجيّر السيولة الموجودة لدى المصارف لصالح الدولة. هذه العملية ليست مستحبة عند مستويات عالية، وفقاً لصندوق النقد الدولي في تقريره الأخير عن لبنان. تُشير هذه المؤسسة الدولية إلى أنّه عند بداية الربيع الماضي وصلت ودائع المصارف التجارية لدى البنك المركزي إلى 17.5 مليار دولار (باستثناء الاحتياطات الإلزامية طبعاً) «هو مستوى قياسي على الإطلاق ويفرض كلفة على مصرف لبنان». ولذا «يجب على الحكومة أن تخفض اعتمادها على مصرف لبنان لتأمين التمويل» الذي تحتاجه وأن تجذب السوق إلى سندات الخزينة طويلة الأجل المغرية نظراً لارتفاع معدّلات الفوائد التي تفرض عليها.
المصارف في لبنان هي السوق بطبيعة الحال. وعندما لا تستثمر في دين الدولة الجديد على نحو مباشر توظف أموالها لدى «الأخ الأكبر»، أي المصرف المركزي. وهذه الدينامية هي التي تحافظ للبلاد ـــــ التي «تتمتع مصارفها بمستوى عالٍ من السيولة» على حد تعبير الصندوق ــــ ذلك الصمود في تأمين التزاماتها، وتخلق هذا النوع من الفصام.
يؤكّد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أنّه مستمرّ بالسياسة التي يعتمدها ويُشير إلى أنّ الاحتياطات بالعملات الأجنبية ــــ باستثناء الذهب ــــ وصلت إلى 37 مليار دولار، وهي كافية لتغطية حاجة البلاد للاستيراد لفترة تفوق عام ونصف العام كما تُعزّز الثقة بالجهاز المصرفي اللبناني.
غير أنّ المخاطر التي تحيط بالبلاد مترافقة مع غليان داخلي إلى تزايد. يقول تقرير Citigroup في هذا المجال، إنّ ثقة المستثمرين في البلاد هوت نتيجة البيئة السلبية التي تعيش فيها حالياً قطاعات أساسية لنمو الاقتصاد اللبناني التقليدي: السياحة والعقارات (ضمنه البناء) والتجارة. ووفقاً لما ينقله قسم الأبحاث في بنك «بيبلوس» عن معهد التمويل الدولي، ستهوي التدفقات الرأسمالية الصافية إلى البلاد بنسبة تفوق 30% هذا العام إلى 1.6 مليار دولار؛ هذا التراجع هو الأكبر بين سبعة بلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يدرسها التقرير. ويُشار هنا إلى أنّ هذا الرقم كان عند 12 مليار دولار في عام 2009. صحيح أنّ الودائع تستمر بالنموّ بنسبة 7%، أي أعلى بواقع نصف نقطة مئوية عما تحتاجه البلاد لكي تبقى صامدة من دون تعثّر مالي ملموس، بيد أنّ الاقتصاد عموماً يتأثّر على نحو حاد نتيجة اشتعال المنطقة، ومن المتوقع أن ينمو بنسبة 2% فقط هذا العام.
الطرف الآخر من المعادلة يبدو غير متأثّر بهذه اللوحة المتشائمة، وفقاً لما تؤكده المجموعة المصرفية الأميركية. بحسب تقويمها سجّل لبنان استقراراً في تأمين التزاماته المالية منذ بدء الأزمة في سوريا تحديداً، وتعزو ذلك إلى مرونة القطاع المصرفي وثباته وإلى واقع أن المالية العامّة لم تتأثّر بالدرجة نفسها التي عصفت بالاقتصاد ككلّ. ويعود هذا الوضع إلى سببين: أوّلاً، العجز لم يرتفع أخيراً بالمعدلات الكبيرة التي سُجّلت قبل عام 2011، وأساساً تعاني المالية العامّة في لبنان من خلل هيكلي تاريخي ومن عجز مزمن مثّل 10% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العقد الماضي. وتُعيد المجموعة توسع العجز في عام 2012 إلى ارتفاع الإنفاق العام الناجم عن زيادة الأجور في القطاع العام فيما سجّلت الإيرادات الضريبية ركوداً واضحاً.
ثانياً، ترى Citigroup أن قدرة الحكومة على تأمين تمويلها من المصارف تعزّزت خلال العامين الماضيين وتُكرّر المعزوفة التقليدية التي تُفيد بأنّ استقرار القطاع المصرفي أساسي لكي تبقى المالية العامّة مستدامة (ولا تذكر فوائد القطاع المصرفي من هكذا وضع!) غير أنّها تحذّر في الوقت نفسه من أنّ تبدّد ثقة المودعين يؤدّي إلى هروب الرساميل وإلى تراجع حاد في قدرة المصارف على دعم الدين العام. وتقوم تلك الثقة، وفقاً للتحليل نفسه، على قدرة القطاع المصرفي على تخطّي الأزمة وإدارة أصوله على نحو فاعل، وعلى قدرة مصرف لبنان في الدفاع عن سعر صرف الليرة أمام الدولار.
هذه الشروط محفوظة حتّى الآن. ويُعزّزها جوّ عالمي، من أوروبا تحديداً، بأن استقرار لبنان حالياً هو أولوية. وتذهب البلدان القيادية في القارة العجوز لدرجة التأكيد بأن لبنان سيُشكّل منصّة أداء الأعمال في سوريا بعد انتهاء محنتها - من إعادة الإعمار إلى مشاريع التطوير - ومن المفترض أن تلعب المصارف دوراً أساسياً، لنقل في مجال التسهيل وليس تمويل الاستثمارات، في هذا المجال.