يوم غد، ينتخب أكبر «لوبي مالي» في لبنان ممثليه. إنها انتخابات جمعية مصارف لبنان. من أبرز سمات هذا «اللوبي» أنه يحاول معالجة كل مشاكله في الكواليس بعيداً عن الأضواء. غالبية أعضاء هذا التكتّل يرفضون تعريضهم للنقد مهما كان شكله وأهدافه. وراء هذه الصورة التي يرسمونها لأنفسهم، تختبئ أقنعة كثيرة في قلب كل واحد منهم. أولها قناع المصالح التي يضبط إيقاعها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ثم تأتي أقنعة الهوية السياسية والطائفية التي تتماهى مع تركيبة السلطة في لبنان، وهناك قناع «القوّة السوقية»... تجمع بين كل هذه الأقنعة ظاهرة واحدة هي: كبار المصارف وصغارها. معايير هذا التصنيف تميّز بين مصرف وآخر على أساس القوّة المالية ورأس المال. كل هذه الأقنعة هي نسخة عن السلطة في لبنان، حيث الكبار يحكمون ويتحكّمون في الصغار الذين ينتخبون الكبار!
مرّت عشرون سنة على آخر انتخابات فعلية في جمعيّة مصارف لبنان. كان أيلول 1993 آخر «حصرم» عناقيد المعارك الانتخابية. يومها فرضت لائحة فرنسوا باسيل نفسها على اللائحة المقابلة التي كان يرأسها ريمون عوده. سياسياً، كانت لائحة باسيل تحسب على التيارات المسيحية المعارضة لرفيق الحريري، الذي كان يرعى لائحة عوده. استُعملت في تلك المعركة شعارات سياسية و«تنظيمية»، فكانت مرّة معركة فئة لبنانية بخلفية الدفاع عن المارونية السياسية في وجه «الحوت» السنّي القادم. وتارة معركة إعادة تمثيل المصارف الصغيرة في مجلس الإدارة مقابل تمسّك المصارف الكبيرة بحقها في السيطرة على المجلس.
انتهت معركة أيلول 1993 بفوز 6 مرشحين لكل من اللائحتين وتقاسم المجلس والسوق أيضاً. بعد هذا التاريخ حلّت التزكية بدلاً من المعارك واللوائح المتنافسة. تكرّست المعادلة الجديدة باتفاق ضمني رعاه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي عيّن حاكماً مطلع آب 1993. المعركة في حدّ ذاتها كانت مفاجأة لسلامة، سواء بخلفياتها أو بشعاراتها التي طالت الكثير من عناصر السوق ومؤشرات الاقتصاد. لعبة المال والسياسة في معركة عام 1993 أفرزت اتفاقاً على تقاسم كل شيء؛ أُبقيت رئاسة جمعية المصارف بيد المسيحيين، واتفق على المداورة بينهم، وعلى بقاء مركز نائب رئيس الجمعية بيد السنّة، وأُعطي الشيعة مقعدان، والدروز مقعداً واحداً. انتهت مرحلة التقسيم وبدأ عهد جديد في جمعية المصارف يوزّع المصارف في مجلس الإدارة على النحو الآتي: 9 ممثلين للمصارف الكبيرة، وهم يمثّلون الطوائف المسيحية والسنية، وثلاثة ممثلين للمصارف الصغيرة يمثّلون طوائف الشيعة والدروز أيضاً... وفيما كان التناوب قائماً على المقاعد المسيحية والدرزية، كانت المقاعد السنية والشيعية شبه ثابتة ومحصورة.
إفرازات الاتفاق الذي أرساه ممثلو السلطة، وكان عراب تنفيذه سلامة، استمرّت عقدين رغم التغيّرات الواسعة الطارئة على السوق المصرفية بعد عمليات دمج والغاء مصارف، وأدّت إلى إمساك مجموعة من المصارف بحصرية ضمن القطاع؛ أصبح الهدف الجوهري لوجود تكتل أو لوبي اسمه جمعية المصارف، أي الدفاع عن مصالح المصارف بكبيرها وصغيرها، بيد مجموعة محدودة من المصرفيين.
بعض المصرفيين يبرّر هذه الحصرية بما تمثّله المصارف الكبيرة من الحصّة السوقية والبالغة 85% من الودائع الإجمالية في القطاع، وبالتالي «فإن مجلس الجمعية يجب أن تكون لديه القدرة على تنفيذ قراراته، وهو ما يوجب وجود كتلة سوقية كبيرة في المجلس». ويضيف المصرفي المرموق إن المنتسبين إلى جمعية المصارف 71 مصرفاً، (إذا احتسب بنك المدينة يرتفع العدد الى 72)، لكنهم، عملياً، يمثّلون نحو 49 مجموعة مصرفية. بعض المجموعات المصرفية تحمل 5 أصوات في الجمعية العمومية، وبعضها يحمل ثلاثة أصوات أو اثنين، لكن في المجمل هناك 8 مجموعات مصرفية كبرى تحمل 22 صوتاً.
في ظل وجود هذه الكتلة الكبيرة التي يعبّر عنها في إطار مجموعة مصارف «ألفا»، أي المصارف التي يزيد حجم ودائعها على ملياري دولار، ليست هناك فرصة كبيرة لإنشاء تحالفات واسعة بين المصارف الصغيرة تدفع مصارف «ألفا» نحو تسوية توسيع مشاركة المصارف الصغيرة أو المتوسطة في مجلس إدارة الجمعية. رغم ذلك، كان رئيس مجلس إدارة بنك بيروت سليم صفير يرشّح نفسه لرئاسة الجمعية. كان يعتقد أنه يرغب في الانضمام إلى حلقة تداول الرئاسة بين المسيحيين... إلى أن قدمت إليه بعض المصارف عرضاً بهذا الشأن. لكن كان لافتاً أن صفير لم يرشّح نفسه هذه السنة. لعل صفير ليس معجباً بحركة المصارف ومشاريعها وإنجازاتها، لكنه لم يقدم على أي خطوة.
وعلى الضفة الثانية، فإن المجلس بأركانه «التقليدية» لا يرى أمامه سوى «إنجاز» الخروج من حلقة الضغط الأميركي التي اطاحت البنك اللبناني الكندي، و«الاتفاق بات قريباً مع نقابة موظفي المصارف على عقد عمل جماعي جديد». النقاش حول عقد العمل ليس في مكانه، لكن الاتفاق عليه لم يحصل بعد في ظل وجود المصارف الكبيرة، التي توظّف لديها نصف العاملين في القطاع، خارج أي عقد جماعي.
أما حركة المصارف الصغيرة، فلم تكن أفضل حالاً؛ فقد تردّد أن بعض المصارف «الشيعية» كانت تعتزم المطالبة بالدخول في حركة التداول على السلطة أسوة بالتداول الدرزي والمسيحي، لكنها قرّرت أن تبقى تحت سقف الاتفاق هذه المرّة، في انتظار إيجاد حلّ ما لتمثيل مصالحها في مجلس الإدارة، سواء في المداورة أو في توسيع عدد الأعضاء في المجلس. ويقول هؤلاء إن مصالح المصارف الكبيرة محفوظة لدى المسؤولين عن القطاع المصرفي، وهم يأكلون البيضة وتقشيرتها، فيما يُترك لصغار المصارف «فتات» تتنافس عليه مع بعضها بعضاً، بعيداً عن أي حصص أخرى في سوق يفترض أنها مفتوحة على مصراعيها. صغار المصارف تطالب اليوم بأن تعامل وفق المعايير نفسها التي يعامل على أساسها الكبار، أي إنها تطالب بمساواة بين مصارف «ألفا» و«بيتا» و«غاما» و«دلتا».
على أي حال، سيكون مجلس إدارة جمعية المصارف المنتخب في تموز 2013 برئاسة فرنسوا باسيل، والأعضاء: سعد الأزهري (بنك لبنان والمهجر)، تنال الصباح (البنك اللبناني السويسري)، مروان خير الدين (بنك الموارد ــــ بدلاً من غسان العساف ضمن اتفاق المداروة بين الجنبلاطيين والارسلانيين)، فريد روفايل (البنك اللبناني الفرنسي)، محمد الحريري (بنك ميد)، انطوان صحناوي (SGBL)، نديم القصار (فرنسبنك)، عبد الرزاق عاشور (فينيسيا بنك)، ريمون عوده (بنك عوده)، جوزف طربيه (بنك الاعتماد اللبناني)، سليم صفير (بنك بيروت).