كل التطورات والمبادرات والاتصالات والمداخلات التي تتابع في الأزمة المصرية المفتوحة، تظل، بعد يوم مصر العظيم في 30 حزيران، في خانة التفاصيل؛ فالحدث التاريخي المصري وقع، بالفعل، حين تكوّنت كتلة سياسية جماهيرية حرجة قادرة على منع الإخوان المسلمين وحلفائهم من ممارسة سلطة الحكم، لكن من دون القدرة على إقامة سلطة حكم مضادة. (وهذا هو معنى استنجاد جماهير المعارضة بالقوات المسلحة لإنشاء تلك السلطة).
ملايين 30 حزيران تكفي وتزيد لتحقيق هدف إسقاط نظام نخبوي معزول كنظام حسني مبارك، كما حدث في 25 يناير 2011، لكنها تصطدم، اليوم، بنظام يستند، هو الآخر، الى كتلة سياسية جماهيرية من الإخوان وحلفائهم الاسلاميين، وفي قلبها تنظيمات عصبوية ميليشيوية كان لبعضها تراث إرهابي.
لم يعد الإخوان وحلفاؤهم قادرين، بعد 30 حزيران، على الاستمرار في الحكم في سياق ديموقراطي أو نصف ديموقراطي، بل بقوة الاستبداد الصريح والشامل. وهذا الشكل من السلطوية مشروط بالسيطرة على جهاز الدولة، المدني والعسكري. وهو شرط غير متوافر، ما يدفع بالنظام الإخواني الى وضع معقّد فريد من السعي للسيطرة على الدولة من خارجها، أي بواسطة الحشود الجماهيرية والميليشيات.
التظاهر (الإخواني) ضد التظاهر (الشعبي) لن يؤدي الى حل الأزمة. ومن الواضح، وفقاً للمؤشرات، أن هذه المنافسة ليست في مصلحة الإخوان، ليس فقط من زاوية الأعداد، بل، في الأساس، من زاوية رمزية وأخلاقية؛ فهؤلاء ينافحون عن سلطة نبذتها الأغلبية، وسيواجهون احتمالين: الهزيمة أو الانزلاق نحو العنف، أو، للدقة، الهزيمة والعنف معاً، ما يعني ولادة الارهاب.
لا حل في مصر إلا الحل المنتظر على أيدي القوات المسلحة، وافتتاح مرحلة انتقالية جديدة. فهل يتصور أحد أن يمضي هذا الحل من دون مقاومة إخوانية سلفية؟ وهل يتصور أحد أنها لن تنحو منحى عنفياً؟
الاحتمال الأقوى أن الجيش المصري سيظل متماسكاً إزاء العنف، وأنه سيتمكن من ضبطه، وأنه سيفرض البدء بتطبيق خارطة الطريق التي تعكس مطالب جماهير 30 حزيران. لكن من تحت طاولة الانحناء الإخواني المتوقع لإرادة القوات المسلحة، سيكون علينا أن ننتظر رداً إخوانياً سلفياً متعدد الأشكال، ومنها، وأخطرها، التكفير الصريح و«الجماهيري» للشخصيات والناشطين المعارضين للنظام الإخواني السلفي.
التكفير سلاح بدأ استخدامه مبكراً، لكن، بعد الهزيمة، سيغدو التكفير هو الآلية الأساسية للممارسة السياسية للإسلاميين. وهو ما سيؤسّس لموجة إرهابية من قبل مجموعات مصمّمة وأفراد يائسين معادين للدولة والمجتمع. فهل سيكون حجم الظاهرة الإرهابية في الحدود التي عرفتها مصر في التسعينيات، أم أن اجتماع الارهاب والفوضى وتردّي الاقتصاد والخدمات، سينتهي الى حالة من الانهيار الأمني الشامل.
لا مخرج لمصر في الأفق. وعلى رغم عظمة الثورة المصرية الثانية، فهي لا تزال تعمل في سياق البرنامج السياسي الليبرالي، ولم تستطع أن تحقق القفزة الضرورية نحو البرنامج الوطني الاجتماعي، البرنامج الوحيد القادر على تمكين مصر من تجاوز الانحلال.
القضية المركزية في مصر هي قضية الاستقلال والتنمية. وقد جمعتهما لأنهما قضية واحدة؛ فالاستقلال شرط لازم للخيار التنموي الوطني (السيطرة على الموارد والسوق المحلية والمؤسسات المالية وفرض الضريبة التصاعدية واستعادة مشروع التصنيع الثقيل وإحياء الإنتاج الريفي واستيعاب القوى العاملة في العملية الإنتاجية في إطار الديموقراطية الاجتماعية).
ترتفع في ميدان التحرير اليوم صور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أكثر بكثير مما شوهد في ثورة 25 يناير، لكن الناصرية لا تزال غائبة عن برنامج الثورة المصرية.
هزيمة الإسلاميين، الفكرية والمعنوية والسياسية، ستفتح الباب، بالطبع، أمام عودة صيغة محدثة من صيغ الناصرية الى مصر، لكنها عودة لا تزال في رحم التاريخ، وربما تظل غائبة الى أمد بعيد بسبب ضرورة الإجماع اللازم لمواجهة الظاهرة الإرهابية التي بدأت تعرب عن تهديداتها بالفعل. لكن استئصال التكفير والارهاب ليس ممكناً، في النهاية، خارج المشروع الوطني التنموي، القادر، وحده، على استيعاب المفقرين والمهمشين وإدماجهم في اقتصاد عادل.
إقليمياً، أظهرت التطورات المصرية، بوضوح، معاني ودلالات الصراع الدائر في سوريا؛ فالقوى التي ينتفض ضدها المصريون هي من الطبيعة نفسها للقوى التي تقاتل النظام السوري. وربما نصل، قريبا،ً الى مشهد مصري يشبه، الى هذا الحد أو ذاك، المشهد السوري: الدولة الوطنية والجيش الوطني في مواجهة الإرهاب.