كان يريد أن يموت. فقط. لم يكن يريد أن يصبح بطلاً قومياً، ولا أن يصبح حدثاً تلوكه الألسن. أمس، رمى حسين علام بجسده في حاوية النفايات المشتعلة لهباً عند مدخل مؤسسة كهرباء لبنان. لم يأبه لرجفة بكره سيمون الذي رأى والده فجأة في اللهب. ولم يكترث لسينتيا الصغيرة التي ستكبر على صورة باهتة معلّقة على جدار. كل تلك الأشياء، لم تمرّ في بال الأربعيني عندما رمى نفسه. مرّ شيء واحد في خاطره عندما ودّع أفراد عائلته أول من أمس: الجوع. يخاف الرجل من عجزه أمام جوع أطفاله الأربعة. والجوع يفوق بعدواته «إسرائيل، على الأقل بالنسبة لنا نحن الذين عشنا الحرمان». لهذا السبب، رمى علام سنوات عمره، التي تلامس عتبة الخمسين، في الحاوية. كان مستعداً لأن يكون «بوعزيزي الكهرباء» ولا أن يبقى «مياوماً» لمدى الحياة. وتعريف المياوم في مثل حالة علام، هو الذي يتقاضى لقمة عيشه يوماً بيوم، ويحسب لأيام لا تكون فيها لقمة. هكذا، هي حياته منذ 9 أعوام وحياة كثيرين غيره وقفوا أمس متفرجين على موتهم في اشتعاله.
أمس، كان علام يريد أن ينهي كل هذا. أن يموت ليحصّل حقوق زملائه من المياومين وجباة الإكراء ويحصّل «كرامة عائلتي». وبما أن كل معركة فيها شهداء، فقد قرر أن يكون «شهيد معركة المياومين مع الدولة»، وهو الذي هيّأ لهذا السيناريو في اعتصام الـ94 الذي نفذه المياومون قبل عام، عندما أقسم على نفسه بأن يكون «الشهيد».
علام، الواقف عند حافة موته، هو واحد من بين 2000 عامل يعملون لقوت يومهم، من دون حسابات مستقبلية. هو نموذج صغير عن عمال صغار يحاربون بأبسط حقوقهم: لقمة عيشهم. ولو مات، لما كان أحد سيأبه إلا الرفاق. وقد مات قبله كثر معلّقين في السماء، ولم يأبه أحد لموتهم. فهل يعرف المتحكمون بلقمة عيشهم كم عددهم؟ وكيف كانوا يتدبرون حياتهم؟ وما الذي حلّ لاحقاً بأطفالهم؟ وكيف يعيشون؟
العام 2005، انقلبت الدنيا رأساً على عقب. قتل رئيس مجلس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. غادرت الكثير من الشركات الأجنبية، وسرّح آلاف العمال. من بين المسرحين، كان حسين وسمير وعلي وأحمد وجمال. بقوا أياماً طويلة بلا عمل، يبحثون عما يسدّ الحاجة التي فقدت فجأة. جاءهم العرض من مؤسسة كهرباء لبنان الذي «لم نكن في وارد رفضه»، يقول علام. دخل ورفاقه إلى المؤسسة، وبدأ يختبر العيش يوماً بيوم، «مع ذلك رضينا، وعملنا على تطوير المؤسسة، فقد حولنا العمل من مفك البراغي (test) إلى العمل على الأجهزة الإلكترونية». تغيّر كل شيء في ذلك الحين، فمن معاش ثابت إلى «8 آلاف على النهار الذي نخدمه تكاد لا تفي ما تعلمته». وهنا، لا تحتسب تلك الثمانية بشكل دائم «فأيام نقبضها وأخرى لا نتقاضاها». وما أكثر أيام التعطيل «العطلة الأسبوعية والأعياد واعتصامات المثبتين في الشركة، حتى 1 أيار عيد العمال يحسم من مستحقاتنا». وبعد الاختزال، «لا يصل المجموع إلى 200 أو 300 ألف ليرة لبنانية». شيئاً فشيئاً، صارت ترتفع القيمة حتى وصلت إلى 21 ألف ليرة. مع ذلك «لم يصل الراتب إلى حدود الحد الأدنى للأجور». سنوات كثيرة قضاها حسين على هذه الشاكلة «لا نصرف أكثر مما حددنا لليوم وهو مصروف الأكل وبعض حاجات الأولاد، وقد يتخربط كل النظام إذا مرض أحد أولادي». في حياة علام، «تخربط» النظام كثيراً: عاد ابنه سيمون من جامعته في حلب وخسر المنحة بسبب الأزمة. ولأن الوالد لا طاقة له على إعالته وتدريسه من الآلاف التي يتقاضاها، ترك الشاب دراسته الجامعية والتحق بسوق العمل لمساعدة والدته. والأمثلة كثيرة. أما الإقامة، فليس علام وحده من عجز عن دفع الإيجار وردّ عائلته إلى الهرمل، كثيرون مثله فعلوا الشيء نفسه، خوفاً من الجوع.
لكن، علام ليس وحيداً في أزمته، فكل الذين وقفوا أمس أمام بوابة مؤسسة كهرباء لبنان مطالبين بتعديل القانون، القاضي بإجراء مباراة محصورة للشواغر في المؤسسة، كانوا يخافون الجوع نفسه. وكلهم «متعلمون، أقل شهادة فينا شهادة بكالوريا فنية»، يقول سمير حمية. هذا الرجل، الذي لم يبق له من العمر «أكتر مما مضى»، يعيل «5 أنفار، زوجتي وشابين وطفلتين، يعني لو ما عندي إدارة 100% ما بناكل كل يوم». مع ذلك، يبقى الوالد «مقصّراً» تجاه أطفاله «أشعر بالذنب لأنني لم أسجلهم في مدارس مرتبة ولم أستطع تأمين كل ما يحتاجونه». وقد يكون أبسط ما يحتاجه هؤلاء ضعف حدٍ أدنى لم يصل إليه الوالد في عمله المياوم، قبل انخراطه «المؤقت» في إحدى الشركات الخاصة.
في حياة هؤلاء، لا يمكن الحديث عن استقرار وظيفي. فهم، إن كانوا اليوم في كنف شركة خاصة يتقاضون راتباً معقولاً وبعضهم مضمون، إلا أن الحياة رهن بصاحب العمل. هذا الاستقرار هو أقصى ما يطلبه هؤلاء «على الأقل نضمن أولادنا»، يقول قاسم أمهز، المياوم منذ 21 عاماً. «عمر»، يقول، كأنه تذكر للتو عمره الذي تضاعف «بلا ولا شي». هذا الشاب، على عكس رفاقه الذين التحقوا في أعمالٍ موقتة. لا يزال مياوماً «تحت إيد متعهد». يقبض عشية كل يوم عمل «وصاروا الآن 26 ألفاً بعد 21 سنة، يعطينا إياها المتعهد، فيما يتقاضى هو 11 ألف ليرة على الراس». أما اليوم الذي لا عمل فيه، «فنأكل مما ادخرناه من الأيام السابقة». لا حسابات تدّخر للمستقبل. ثمة «ما نتركه لكم يوم إلى الأمام». لا أكثر ولا أقل. أما الطبابة، فيروي قاسم حكاية «التأمين ع الراس»، يقول «كل متعهد عمل يقوم بتأمين 20 راس، وكلما احتاج أحد للعلاج يدخله على إسم واحد من العشرين، ولكن نادراً ما تسير الأوضاع كما نبتغي، فمن يستطيع اللحاق بالمتعهد كي نتطبب، وغالباً ما نتعالج على حسابنا الخاص».
أمس، بدأ المياومون أول تحرك فعلي أمام مؤسسة كهرباء لبنان. قطعوا طريق كورنيش النهر من أجل تعديل القانون المسرب إليهم بالصدفة، من خلال إلغاء البند السابع الذي يحرمهم من تعويضاتهم وتعديل البند الأول من خلال إجراء مباراة محصورة لملء الشواغر في المؤسسة، مع مراعاة سنوات الخدمة والخبرة للمياومين. أما غير ذلك، فهناك «1800 حسين علام مستعدون للدفاع عن حقوقهم»، يقول أحمد شعيب. أما المعادلة الإضافية والجديدة في آن واحد، فهي تلك التي تعني أن أية «ضربة للمياومين تعني ضربة للمؤسسة، ونحن نعي ما نقول، فأي تمرير للقانون بهذه الصيغة سيضطرنا إلى تفجير المؤسسة ربما»، يقول أحدهم. يذكر أن 4 جرحى سقطوا في الاعتصامات التي نفذها المياومون، هم حسين علام وعلي بدران في بيروت وانطوان يونان في جونيه وطلال شلبي في الشمال.