ما زلتُ أذكر من سنة 69 ذلك الملصق الصادر عن احدى التنظيمات الفلسطينية. رسم لبندقية كلاشنيكوف تخرج من فوهتها كلمات متتابعات كأنها طلقات: «القرار من فوهة البندقية» أو شيء كهذا، لكن مفاده أن السياسات يصنعها المقاتلون والسلاح. كان ذلك الوهم، حينذاك، منتشراً؛ فالبندقية هي فوق السياسة والفكر والثقافة والنهج، إنها، بذاتها، نهجٌ. ولعل احلال الأداة ــــ والسلاح، في النهاية، أداة ــــ محل الرؤية، كان يتلاءم، كلياً، مع مصالح النخبة القيادية الفلسطينية، بما يمكّنها من فرض رؤيتها على الجماهير والمقاتلين، واستخدامهما لتنفيذ نهج سياسي مرتبط بالبرجوازية الكمبرادورية المتحالفة مع الرجعية الخليجية.
أثبتت التطورات اللاحقة أن القتال ـــ في حدّ ذاته ــــ لا يصنع مقاومة، وأن المقاتلين لا يصبحون مقاومين بمجرّد امتشاق السلاح، وأن شلالات الدم قد تذهب هدرا ولا تراكم انجازات سياسية، بل تراكم الأخطاء والخطايا... واللوعات، وصولاً إلى الاعتراف بالعدو، وتوظيف البنادق والرجال والشهداء، في عقد صفقة رديئة معه، كما حصل في أوسلو 1993.
المقاومة، أولاً وقبل كل شيء، هي فكر وسياسات واستراتيجيا، تدمج المقاتلين في سياقها، فيتحولون إلى مقاومين (عقيدةً ورؤية وقتالا) وتستخدم الوسائل الحربية، كالوسائل السياسية والنضالية والثقافية والاعلامية، كلها بالقدر اللازم ـــ وليس أكثر من ذلك ــــ لتحقيق تراكم في الانجازات، في سياق استراتيجي.
لوقت طويل، ظلت المنظمات الفلسطينية تطلق النار... وأكثر كثيراً مما يجب في صدامات أهلية، وفي القتال في ما بينها، وفي عمليات ضد العدو، تحدث، بين الحين والآخر، لا في سياق استراتيجي، بل لتحسين الشروط السياسية الخاصة بهذا التنظيم أو ذاك الخ. وقد سمّينا كل تلك الفوضى والديموغوجيا، مقاومة، بينما شكّكنا ـــ في المقابل ــــ في استراتيجيا المقاومة الواقعية الملتزمة التي اتبعها النظام السوري منذ العام 1974 ــــ أي بعد خروج مصر من معادلة الصراع، مما جعل الحرب النظامية، مغامرة غير محسوبة ــــ وقد وقع العديد منّا، وربما جميعنا في بعض الأحيان، في رؤية ساذجة لم تفهم، ولم تقدّر النهج المقاوم الذي قاده الرئيس حافظ الأسد، وحقق، من خلاله، ما هو ممكن بالضبط، لا يستسلم ولا يبالغ، بل يحدد أهدافه المرحلية بدقّة، ويحققها بالنقاط، محوّلاً سوريا إلى قوة إقليمية وازنة في الصراع مع الولايات المتحدة وإسرائيل، تشكل المركز والسند والملاذ للمقاومات الشعبية. وواصل الأسد الثاني استراتيجيا المقاومة نفسها، لكن ربما بقدر أقل من الحذر، سرّع عملية بناء التوازن الدفاعي مع إسرائيل، وضاعف من دعم حزب الله، وتحدى الولايات المتحدة ودعم المقاومة ضدها في العراق.
لا بد أن نستدرك، بالطبع، أن النظام السوري الذي بنى خط المقاومة في المنطقة، وتفنّن في عقد التحالفات الخارجية لزيادة قوته وتأثيره، فشل، داخلياً، في منع الانزلاق نحو اقتصاد السوق والنيوليبرالية والفساد، وفي إقامة شبكة تحالفات سورية ــــ سورية، تكفل بناء جدار صلب للجبهة الداخلية. وهاتان هما الثغرتان اللتان نفذ منهما الحلف الامبريالي الصهيوني الرجعي، لضرب سوريا. ولعل الدماء الزكية التي سالت في مواجهة الغزاة، تكون معبراً إلى مسار التنمية الوطنية والاقتصاد العادل والديموقراطية الاجتماعية ونسج التحالفات الداخلية، في سوريا الآتية.
أين وصلت فصائل منظمة التحرير التي طالما عارضت سوريا الأسد؟ إلى تقديم سلسلة من التراجعات وصلت إلى عرض بتبادل الأراضي، بل وصلت، واقعياً، إلى ما دون العروض الإسرائيلية بعد هزيمة حزبران 1967؛ فلماذا كانت، إذاً، كل تلك البنادق وكل تلك الدماء؟ ولماذا كان ذلك القتال من أجل القرار الوطني المستقلّ (عن سوريا وليس عن الرياض وواشنطن)؟ أليس من أجل تمكين النخب المرتبطة بالكمبرادور والرجعية من الاستئثار بالسلطة على أنقاض القضية الفلسطينية.
ثم جاءت حماس... ووقعنا، مرة أخرى، في فخّ السلاح على شكل أحزمة ناسفة هذه المرة، ولم ندقق في المضمون الاجتماعي السياسي للحركة، ولا في فكرها ولا في استراتيجيتها؛ استخدمت حماس الاستشهاديين لتدمير فتح وليس أوسلو، وللاستئثار بالسلطة في أشلاء فلسطين وليس لتحريرها. ولم نعترض حتى على منهج هذا النوع من القتال، ولم نر مضمونه التكتيكي والدعائي الموجّه، بالأساس، لمنافسة السلطة الفلسطينية انتخابياً وسلطوياً، وليس لتأسيس سياق استراتيجي للمقاومة.
أين انتهت حماس سياسياً؟ في خندق الحلف المعادي الذي يقاتل سوريا المقاومة، بينما يتخصص مقاتلوها في غزة في مطاردة الشباب والصبايا والموضة والحب.
أين السرّ؟ السر مكشوف.. فتح أنشأها الإخوان .. وحماس أيضا. وإذا كان حزب الله يريد استعادة الحوار مع الحمساويين «للتقريب بين المذاهب»، فهذا مفهوم، ولكن لا مقاومة تُرجى لدى «الإخوان».