على الصفحة الرئيسية للنسخة الإلكترونية لجريدة «الرياض» (عدد 16421، 9/6/2013)، مقال يستلفت الانتباه بصيغته التضليلية والتحريضية، في صبّه الزيت على نار الفتنة المذهبية، خصوصاً في لبنان، وبشكل أخص في الشمال ومدينة طرابلس حيث يستمر نوع من جنون قتال عبثي يكاد يتبرأ منه مطلقوه، بعد أن ضاقت به عاصمة الشمال خسارة وتذمراً.جاء المقال بعنوان مثير «هل يلحق لبنان بدولة العلويين المفترضة؟!». المقال بقلم الكاتب السياسي السعودي يوسف عبدالله الكويليت، نائب رئيس تحرير جريدة الرياض، والذي ينشر مقالاته على الصفحة الرئيسية في عمود «كلمة الرياض» المخصص له تقريباً. يعني ذلك أن مقالات هذا الكاتب تعبر لحد كبير عن سياسة جريدة «الرياض» المعادية كمعظم إعلام الخليج لإيران وسوريا وحزب الله. ولعل الكاتب أخذ على عاتقه نشر الآراء العاملة على خلق صورة «شيطانية» لحزب الله الشيعي المعادي للسنة، وترويج صورة للنظام السوري مفادها أن الرئيس بشار الأسد يسعى إلى دولة علوية، ستقوم على أجزاء من سوريا وتركيا ومنطقة طرابلس اللبنانية. بالطبع طرابلس ذات الغالبية السنية يصورها الكاتب الكويليت هدفاً يسعى الأسد إلى تصفية السنة فيها بغية استكمال مشروعة التقسيمي التفتيتي.
ليس هذا المقال «فلتة شوط» للكاتب، بل هو سيرة دأب في التعبير عنها في موضع «كلمة الرياض» على الصفحة الرئيسية للجريدة. لقد كتب قبل بضعة أيام مقالاً بعنوان «حزب الله منظمة إرهابية» (1/6/2013)، تحدث فيه عن شتى أنماط الإرهاب التي عرفتها البشرية في التاريخ الحديث، ولكن دونما أي ذكر لإرهاب الولايات المتحدة وللإرهاب الصهيوني. فكأن الكويليت المدافع عن أهل السنة لم يعثر على وجود لأهل السنة في فلسطين، ولا بجوار المسجد الأقصى. وسبق له في مقالين سابقين أن لمح إلى مشروع دولة علوية. الأول «مستقبل سوريا من المنظور الأميركي ــ الروسي»، (16/5/2013)، جاء فيه: هناك «احتمالات أن قناعات ظهرت بعد هذه المباحثات بأن مستقبل سوريا قد ينزلق نحو دولة يسيطر عليها متشددون إسلاميون، أو أن يتم تقسيمها على أساس طائفي وعرقي...». والثاني أسبق عليه، وجاء بعنوان «سوريا.. هل تكون قاعدة حرب سنية.. شيعية؟!» (24/4/2013). ومما جاء في هذا المقال: «... والنتيجة أنّ النظام السوري وحزب الله وإيران يسعون لبناء دولة العلويين على الساحل في حال سقوط دمشق وبخطط بدأت مع الأيام الأولى للثورة، وقد لا تنتهي أمام التحالف الجديد بخلقها على الواقع بتطهير القرى في منطقة القصير من سكانها، وإعادة توطين شيعة لبنان على الحدود مع علويي سوريا». ويضيف: «دولة العلويين بدأت خيوطها قبل جلاء القوات الفرنسية، وطرحت من جديد أيام الأسد الأب، وهي الآن قيد التنفيذ».
المقال الذي نناقشه اليوم لا يختلف بشيء عن المقالات السابقة، وخاصة مقال 24/4/2013، اللهم بغير ظروف التطورات الأخيرة مع سقوط مدينة القصير السورية بأيدي قوات النظام السوري المدعومة من مقاتلي حزب الله. هذا هو معنى الضخ الإعلامي المركز، («الضرب بالمِطرقة»، أو «المَطرقة»، أو «الطَرْق»، عبارة ماتراكاج الفرنسية matraquage، أصلها عربي من مِطرقة). إنه التحايل على الحالة النفسية باللعب على الأوتار الطائفية وإبقاء الناس في حالة التوجس من خطر يمثله فريق سياسي معيّن، وهنا الحالة الشيعية والعلوية التي يُراد تصويرها في حال الهجوم الدائم والتاريخي على أهل السنة. ولهذا يجري استحضار التاريخ، وما فيه من سلبيات، وإسقاط كل هذه السلبيات على حاضر مجتمعاتنا. كما يجري اللجوء إلى شتى أشكال التزوير والتلميح والغش والافتراء بلا رادع علمي أو أخلاقي أو وطني.
عودة إلى المقال «هل يلحق لبنان بدولة العلويين المفترضة؟!»
من البداية نشهد التضليل والتزوير معاً. التضليل في التقليل من أهمية سقوط مدينة القصير، وطمس معنى ذلك في الصراع الدائر على أرض سوريا. يبدأ الكويليت: «سقطتْ أو لم تسقط القصير بيد جيش النظام وحزب الله، فتداعياتها أكبر من انتصار وهزيمة». أن يستعيد النظام موقعاً عسكرياً مفصلياً يعني تحقيق النظام انتصاراً على طريق استعادة سلطته على رقعة كانت بيد المعارضة، ما يعطيه منصة جديدة لاستكمال عملية احتمال أكبر في استعادة السيطرة على مناطق أخرى؛ ويعني، من جهة أخرى، هزيمة فعلية للمعارضة المسلحة، لأنه بحد ذاته خسارة كبيرة لهذه المعارضة، هزيمة أسست وتؤسس لاحتمال المزيد من خسارة المواقع الأخرى. وهذا ما يوفر فرصة للنظام بتعديل شروط التفاوض في سياق المساعي إلى عقد مؤتمر «جنيف 2»، ويُضعف فرصة المعارضة المسلحة. لا يعني ما نقوله هنا بالطبع أن نتائج الصراع المسلح في سوريا صارت محسومة، ولكنه يعني أن ميزان الصراع انقلب الآن بجلاء لمصلحة النظام.
لا شك أن الكاتب يشعر بحرج مرجعياته السياسية في السعودية (المندرجة في المحالفة الأميركية ــ الأوروبية ــ الصهيونية، وفي ما يُسمى «أصدقاء سوريا») إزاء عدم الوفاء بوعود هائلة للمعارضة المسلحة: مناطق حظر جوي، الممرات الآمنة، التسليح المتطور... ومن هنا يريد أن يوهم الجماهير السنية بأنه لا فرق بين الربح والخسارة الميدانية. انتبهوا يا أهل السنة في سوريا ولبنان: «القصة مش هون»، «القصة أكبر». أين هي «القصة»؟ وهنا يبدأ التزوير والتضليل معاً بقوله: «إن نوايا الأسد منذ أجداده الأوائل هي بناء الدولة العلوية على الساحل الشمالي... الوصول إلى هذا الحلم قائم...».
بداية نسأل: من هم أجداد الأسد الأوائل؟ العلويون طبعاً. طيب! هل كان العلويون الأوائل يحلمون بدولة مستقلة؟ متى كان هؤلاء الأجداد حالمين بالدولة؟ في ظل الإمبراطورية العثمانية مثلاً؟ أم مع الاستعمار الفرنسي؟ يعرف الجميع أن أول ثورة اندلعت في سوريا ضد الاستعمار الفرنسي كانت ثورة الشيخ صالح العلي عام 1918، وكانت ثورة العلويين. والعلويون لم يرتضوا بالدولة العلوية، واندرجوا مع باقي أطياف المجتمع السوري التي رفضت تقسيم سوريا إلى أربع دويلات.
ولكن الكاتب وخلفيته السياسية راغب بالصراع السني ــ الشيعي، وبالصراع السني ــ العلوي. وهو مع القوى التي يعبر عنها يريدون تسعير هذا الصراع المذهبي، وتراهم يصيحون على ألسنة أتباعهم: «يا غيرة أهل السنة». انتبهوا الأسد وحزب الله يريدون دولة علوية. والأسد وحزب الله يريدون تسعير القتال في طرابلس لطرد أهل السنة، وإسكان الشيعة مكانهم.
هذه هي تماماً رسالة هذا المقال، بالكلمة وبالمضمون، وبالتعبير الصريح غير الملتبس: «والواقع أن الوصول إلى هذا الحلم قائم». ويتابع مباشرة بالسؤال: «لكن هل الظروف الدولية والإقليمية، والداخل السوري يسمحان بهذا الإجراء؟».
بالطبع يسأل ويجيب مؤكداً أن الظروف تسمح، بعد أن يعطي سوابق ليثبت وجهة نظره إمعاناً بالافتراء والتضليل. فهو يقول: «النوايا الدولية لا تقاس بالعواطف، فقد فصلت أجزاء من الهند وإندونيسيا وأفريقيا، وتم خلق استيطان إسرائيلي في فلسطين، ما يعني أنهم مع الأمر الواقع إذا لم يؤثر في أمنهم ومصالحهم، وسوريا التي تعيش معركة وجود، فكل الاحتمالات ترشحها لتطورات مجهولة، غير أن الأمر لا يتعلق بها وحدها، فتركيا قد تكون المتضرر الثاني في حال تقسيم سوريا وخلق دولة جوارها، وبيروت وما حواليها ساقطة بقوة حزب الله صاحب الهيمنة على الدولة ومنشآتها، حتى إن ما جرى على الحدود السورية ودخوله المعركة بأوامر إيران، والاشتباكات العنيفة بين السنة والعلويين في طرابلس، كشفت عن أن الدولة وجيشها عاجزان عن أداء أي دور، وبالتالي فهل تتم تصفية وتهجير سكان هذه المدينة لإلحاقها بدولة العلويين، ليتم ضم الجزء الباقي من لبنان معها وفقاً لأمر يحسمه ويخطط له حزب الله؟!».
حلم الدولة العلوية في سوريا يراود حكام الخليج
لا شك أن كل من له رأس يستعمله (لا ليعرضه على المزين) من أهل السنة وغيرهم في طرابلس وغيرها يسخر من هذه الترهات والأضاليل، لأنها تعبر عن استخفاف بذكاء الناس. فالأسد الأب والابن اللذان حكما سوريا بكاملها لعقود لن يخطر ببالهما مطلقاً إقامة دولة علوية على قسم من سوريا وقسم من لبنان، ما داما يحكمان دولة أكبر بكثير مما ينسب لهما الكويليت في حلمه هو، لا في حلم العلويين. وإذا ما تعرضا لهزيمة وسقط النظام وبات عاجزاً عن حكم كامل سوريا فلن يكون بوسعهما حكم الساحل السوري وحده، فمن لا يستطيع حكم كامل سوريا لن يستطيع حكم جزء منها، ومن لا يرسخ سلطته في دمشق وحلب والرقة ودرعا... لن يستطيع الإقامة في القرداحة.
وهذا الحكم الذي استمر على مدى عقود، لا شك فيه أنه قائم على توافق ما بين شتى أطياف المجتمع السوري. فمن المعروف أن من لا يحوز على رضاء تجار دمشق وحلب (وهم في الأغلب من أهل السنة)، وعلى رضاء فلاحي الريف السوري (من أهل السنة في الغالبية أيضاً) لا يستطيع حكم سوريا. وإذا كانت السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي باشرها الرئيس بشار الأسد، بدفع من خبراء النيوليبرالية من متخرجي مؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وفي الطليعة منهم عبدالله الدردري، ومشاريع «الأمانة السورية للتنمية» التي استمدت من الخبراء البريطانيين كيفيات لبرلة الاقتصاد السوري وتصفية المؤسسات النقابية الفلاحية خصوصاً... إذا كانت هذه السياسات قد أدت في السنوات الأخيرة إلى عزل النظام عن قواعده «السنية» لصالح رأسمالية «الحبايب والقرايب»، فإن الانتفاضة التي شرع بها شتى أطياف المجتمع السوري، قد لقنت النظام درساً بليغاً، وألزمته الشروع بطرح خطوات إصلاحية لم يعد بمقدوره التراجع عنها. إن من شأن إنهاء الصراع المسلح في سوريا واللجوء إلى الحوار السياسي، والإقلاع عن المراهنة على المحالفة الأميركية ــ الأوروبية ــ الخليجية، أن يعيد النسيج الاجتماعي إلى لحمة ترى في الاجتماع السياسي الموحّد وفي الإصلاح الجدي للنظام فرصة للخروج من أزمة المجتمع والدولة والنظام في سوريا.
يبدو أن حلم تفتيت سوريا، حلم «تقسيم المقسم» و«تفتيت المفتت»، يراود حكام الخليج وأسيادهم في المحالفة الأميركية ــ الأوروبية. فجميعهم مع أصدقائهم في الكيان الصهيوني يضيقون ذرعاً بوجود دول عربية تشكل، بحجمها ومساحتها وتعداد سكانها، مرتكزات لنشوء نظام إقليمي عربي، من شأنه التفاعل مع القوى الإقليمة الإسلامية حضوراً وازناً على المستوى الدولي. وهذا الحلم أداة تحقيقه تكمن في الفتنة السنية ــ العلوية، واستطراداً في الفتنة السنية ــ الشيعية. ومن هنا بالضبط نقرأ غرض هذا المقال: التحريض والتعبئة في هذا الاتجاه.
أما الحديث عن الأرثوذكسية الروسية ومطامعها أو خشيتها من الغاز في سوريا فترهات لا مكان لها لدى أصحاب العقل السليم.
ملاحظة مزدوجة أخيرة يستدعيها السياق العام
أولاً، هل تساءل أهل السنة عن الجدوى التي حصدوها من ظواهر الحركات الجهادية السنية؟ الولايات المتحدة ومحالفتها الأوروبية ــ الخليجية سددت ضربة لروسيا السوفياتية في أفغانستان، في نهاية السبعينيات، استناداً إلى هذه الحركات الجهادية. ثم عادت وكررت الأمر نفسه في البلقان. ومؤخراً استخدمت هذه الحركات الجهادية في ليبيا لإسقاط نظام القذافي، والسيطرة على أفريقيا وتوجيه ضربات للمصالح الروسية والصينية. وهي تعمل اليوم على مقاتلتها في كل مكان تحت عنوان «الحرب على الإرهاب». ومؤخراً وفرت لها كل السبل للوصول إلى سوريا، لتعميق عسكرة الانتفاضة السورية وتفتيتها، وتعمل اليوم على التخلي عنها، وتضع بعضها على لائحة الإرهاب «جبهة النصرة». أليس ما حصل مع هذه الحركات الجهادية مصدقاً لما قاله الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله في أواسط كانون الأول 2012، عندما نبّه تنظيم «القاعدة» قائلاً: «أن الأميركيين والأوروبيين نصبوا لكم كميناً في سوريا وفتحوا لكم ساحة لتأتوا إليها حتى يقتل بعضكم بعضاً، وأنتم وقعتم في هذا الكمين».
ثانياً، نبني هذه الملاحظة على ما نشرته جريدة الحياة في 3/7/2013، في مقال بقلم تامر الصمادي، نقتطف منه الآتي:
عنوان المقال: «زعيم «السلفية الجهادية» في الأردن يتبنى قتال «حزب الله» داخل سورية ولبنان».
«توقع (أبو سياف) زعيم السلفية الجهادية في الأردن حدوث مواجهة حاسمة بين الجهاديين السنة ومقاتلي «حزب الله»... مؤكداً أن مقاتلة أنصار الحزب الشيعي تعتبر «على رأس أولويات» مقاتليه... وقال إن «الجهاد واجب على كل معتدى عليه، فكيف إذا تضمن الاعتداء قتل النفس ونشر المذهب الشيعي عنوة». وأضاف: «إننا ندعو صراحة إلى قتال هذا الحزب، وعلى أهل السنة والجماعة داخل لبنان وسوريا أن يستهدفوا مواقعه وقادته»... إن المقاتلين السنة داخل سوريا والوافدين من الأردن ومختلف الدول الإسلامية «يمتلكون خبرة لا تضاهى، والأهم أنهم يتمتعون بعقيدة واتصال مباشر مع الله»... «إن عدد المقاتلين الأردنيين فيها يتجاوز الـ500 مقاتل هم الأكثر خبرة ومراساً... وتشير أرقام رسمية غير معلنة، إلى أن عدد الجهاديين المقيمين داخل الأردن يقارب 5 آلاف، يعملون بالخفاء، وينتظرون فرصة اللحاق بمقاتلي سوريا...».
لن نسأل جميع المعترضين على تدخل حزب الله في سوريا، لماذا لا تتفوهون بكلمة على تدخل الآخرين في سوريا؟ من الشيشان، وداغستان، والبلقان، والدول الأوروبية، ودول المغرب العربي ودول الخليج...
يأتي المجاهدون للقتال في سوريا. لماذا لا يأتون للقتال بوجه الكيان الصهيوني؟
يأخذ الكثيرون على النظام السوري عدم فتح جبهة الجولان. وهذا مأخذ سليم وصحيح. فإلى متى ننتظر تحقق «التوازن الإستراتيجي» السوري مع العدو؟ سؤال وما قبله مأخذان صحيحان.
ولكن، نسأل «أبو سياف»، (واخوته من جهاديي باقي الأقطار التي أتوا منها مجاهدين في سوريا) وهو القائل: أكثر من «500 مقاتل هم الأكثر خبرة ومراساً» إلى القتال في سوريا. «والجهاد واجب على كل معتد..». أليس الكيان الصهيوني معتدياً، ويحتل أرضاً أردنية تحت ستار «اتفاق وادي عربة»؟ أليس الأقصى وقفاً للمسلمين السنة؟ فلماذا وأنتم «سلفيون جهاديون»... «يتمتعون بعقيدة واتصال مباشر مع الله»، ويقال عددكم في الأردن يقارب خمسة آلاف، لا تمارسون الجهاد بوجه الصهيوني الغاصب والمحتل والظالم... بينما تلبون نداء الجهاد فقط في سوريا؟
* أستاذ جامعي