لعلها الانتخابات الأكثر هدوءاً في إيران والأقل سجالية. فيها من الرتابة ما يجعل المتابع يمل انعدام الإثارة، رغم الإجماع على مفصلية عملية الاقتراع تلك على المستوى الإقليمي والدولي. كل ما جرى، مذ أعلن مجلس صيانة الدستور لائحة المرشحين المقبولين، كان متوقعاً: انسحاب محمد رضا عارف وغلام علي حداد عادل.
حتى النزاع حول تزكية المبدئيين بين محمد باقر قاليباف وعلي أكبر ولايتي كان معروفاً، وضمنه رفض الأول التنحي على قاعدة الجهد الذي بذله والنجاحات التي حققها من أجل الوصول إلى ما هو عليه الآن، وتفضيل المؤسسة (الدينية والعسكرية والأمنية والدوائر البحثية وأجهزة التقدير وغيرها) للثاني. فضلاً طبعاً عن اضطرار المعسكر الأصولي (ولايتي وقاليباف وحتى سعيد جليلي) في لحظة ما إلى التفاهم على مرشح واحد، منعاً لتوزع الأصوات، إن كان هذا المعسكر يرغب في الفوز من الدورة الأولى.
لعل الاستثناء الوحيد، في المشهد الراكد هذا، كان رفض مجلس الصيانة الموافقة على ترشّح الرئيس الأكبر علي أكبر هاشمي رفسنجاني. وربما يميل البعض إلى الإشارة إلى مفاجأة تسليم مجموعة الرئيس محمود أحمدي نجاد بإخراج مرشحها اسفنديار رحيم مشائي من السباق من دون أن تحرك ساكناً. وهناك أيضاً تمرد ولايتي على المؤسسة ورفضه الانسحاب لمصلحة قاليباف، الذي تشير استطلاعات الرأي إلى أنه سيكون منافس حسن روحاني في الدورة الثانية، وإن لم يكن هو فجليلي. فهذه الاستطلاعات كانت حتى يوم أمس تضع قاليباف الأول بنسبة تأييد 29 في المئة، يليه في المرتبة الثانية نسبة تأييد بين 17 و18 يتناوب عليها جليلي وروحاني، يليهما في الترتيب محسن رضائي فعلي أكبر ولايتي.
لكن كل هذا السكون يجب ألا يمنع إدراك وتلمّس أن هذه الانتخابات ربما تكون الأهم في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لأسباب متعددة نورد أبرزها في ما يلي:
1_ للمرة الأولى يسلّم الغرب (والمقصود أعداء إيران)، بأمرين: الأول، أن نتيجة هذه الانتخابات، مهما كانت، لن تغير قيد أنملة بسياسة إيران وثوابتها، سواء في الداخل أو في ما يتعلق بالعلاقة مع أميركا والموقف من إسرائيل والالتزام بالقضية الفلسطينية والارتباط العضوي بسوريا والتمسك بالبرنامج النووي و... أما الثاني، ولعله الأهم من الناحية اللحظية، هو التسليم بعدم القدرة في التأثير على مجريات العملية الانتخابية ولا حتى إثارة أي نوع من الاضطرابات رغم الرغبة والجهد العارمين في محاولة لتكرار سيناريو عام 2009.
لم يكن الوصول إلى هذه النتيجة أمراً سهلاً، بل أخذ سنوات من العمل، الذي بدأ مع إعادة تقويم استمرت أشهراً لما جرى في ما عُرف بـ«الثورة الخضراء»، وفيه تبيّن أن الأخطاء والخطايا لم تكن وقفاً على «المتآمرين» من أجهزة استخبارات غربية، وبريطانية خصوصاً، وشخصيات إيرانية كانت مرتبطة بالسفارات ومشاركة في ما يجري عن إدراك وتصميم (ولا داعي إلى القول هنا إن مير حسين موسوي ومهدي كروبي لم يكونا يوماً أحد هؤلاء، بل مشكلتهما، على ما يرى المعنيون، أنهما «غطّيا الفتنة» عندما اشتعلت و«لم يتبرّآ منها» عندما انطفأت).
بل إن هناك الكثير ممن انجر إلى هذا الفخ عن حسن نيّة (بدليل خروج التظاهرات رافعة صور المرشد، وانكفائها مع خروجه متبرئاً مما يجري)، سببه عدم وعي النظام على نحو كافٍ لما كان يُعد له في ذلك الحين، وبالتالي فشله في تقدير حجم المشكلة وأبعادها وطرق مواجهتها، فضلاً طبعاً عن اكتشاف أخطاء كبيرة ارتكبتها أجهزة النظام في ردّ فعلها، الذي لم يكن مدروساً في جزء منه. بناءً عليه، وبنتيجة الدراسات والخلاصات التي جرى التوصل إليها، عملت الأجهزة المعنية في الجمهورية الإسلامية، كل في نطاق تخصصه، على مدى السنوات الثلاث الماضية، لتجنب الوقوع في الأخطاء نفسها، وجرى الإعداد لانتخابات اليوم على نحو لم يترك أي تفصيل للصدفة.
لكن كل هذا ما كان ليكون كافياً لولا طريقة إدارة الأزمة التي تولاها المرشد علي خامنئي بنفسه، والتي عُرفت لدى أوساط المحللين بـ«استراتيجية أوراق الخريف»، التي نجحت في نهاية الأمر، على ما تبين من مجريات العملية الانتخابية الحالية، في إعادة الجميع إلى حضن النظام وتحت عباءة المرشد (بدليل مشاركة جميع الأفرقاء، ترشيحاً واقتراحاً في تلك العملية)، وإلى التوافق على خوض الصراع السياسي في صناديق الاقتراع لا في الشارع، كما جرى عام 2009 (بدليل الدعوات التي صدرت عن جميع «المتضررين»، وفي مقدمهم رفسنجاني ونجاد، إلى الهدوء وعدم الانجرار وراء الغرائز، مرفقة بتأكيد الولاء للولي الفقيه وللنظام الإسلامي للجمهورية).
2_ للمرة الأولى، أيضاً، يبدو واضحاً أنّ الحكومة المقبلة ستكون «حكومة قاسم سليماني وحسن نصر الله»، بحسب تعبير متابع لصيق لهذا الملف، قاله على سبيل الدعابة، لكنه تعبير يحمل الكثير من الحقيقة، انطلاقاً من بعدين: الأول، كان لافتاً في الحملة الانتخابية الحالية محاولة جميع المرشحين التقرب من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطاباتهم، كأن في هذا التقرب تزكية لهم لدى الناخب الإيراني للتصويت لهم. أما البعد الثاني، فيقوم على ترجيح موضوعي مبني على أرقام واحصاءات تفيد بأن المرشحين الأوفر حظاً بالفوز (جليلي وقاليباف) يحملان في وجدانهما ويتبنيان في مشروعهما السياسي قيم وأخلاقيات وأهداف وآليات ورؤية نصر الله وسليماني للعمل المقاوم، من دون أن يستبطن ذلك في أي شكل من الأشكال وجود أي رابط هيكلي أو تنظيمي أو علاقاتي بينهما وبين الرئيس الجديد من خارج القوانين والأعراف والتقاليد الممارسة منذ سنوات. حتى غلام علي حداد عادل، الذي انسحب من المعركة، قالها علناً خلال حملته الانتخابية إنّ «أول بلد سأزوره سيكون سوريا لأهنئ شعبها وقيادتها بصموده ومقاومته». جليلي قصة أخرى طبعاً. حملته قائمة على أدبيات المقاومة والصمود والتصدي في وجه جماعة «التربيد» أو جماعة المراجعة ممن يشككون في صلاحية أدبيات المقاومة، والمقصود هنا طبعاً حسن روحاني، الذي أعلنها أكثر من مرة: «كل ما أنا بحاجة إليه هو أن أذهب وأتفاوض مع مختار العالم (الولايات المتحدة)، وسائر القضايا تُحل وحدها، لماذا أتفاوض مع الصغار؟».
3_ للمرة الأولى أيضاً، يبدو واضحاً أن هذه الانتخابات، بنتيجتها، ستمثّل ورقة النعي الرسمية للإقطاع الديني، القائم على تحالف البازار مع حوزة قم. الانتخابات السابقة عام 2005 أدّت دوراً مشابهاً، لكن في مجال آخر. حملت بنتيجتها، التي فاز بموجبها محمود أحمدي نجاد من «اللا مكان»، ورقة النعي الرسمية للحزبية في إيران. كانت المرة الأولى التي يفوز فيها رئيس من خارج الأحزاب. رئيس «من طينة الناس» ليس مديناً لأحد بمنصبه هذا إلا للناس الذين انتخبوه. إلى أن جاءت انتخابات 2009، التي أرادتها الأحزاب، ممثلة بمير حسين موسوي ومهدي كروبي ومحمد خاتمي، أشبه بحرب الخوارج، هدفها الانتفاض على الولاية المطلقة للولي الفقية واستبدالها بولاية دستورية، ولاية مقيدة. فكان أن «هُزم الخوارج، ومعهم الأحزاب».
التجربة تتكرر في الانتخابات الحالية، لكن بآليات وأهداف ونتائج أخرى. هذه المرة «لم يجرؤوا على أن يرفعوا هذا الشعار، موضوع الولاية». يخوضون معركة «أشبه بحرب الجمل. تلطوا خلف رفسنجاني، كانوا يريدون أن يضعوه في وجه المرشد. فشلوا. لم يفهموا منطقه. وبعد رفض ترشّحه، ها هم يتلطون خلف روحاني. يتلطون عملياً برفسنجاني من خلال ظلّه. في النهاية، لولا خيمة رفسنجاني لما نجحوا أصلاً في أن يكونوا مرشحين».
انتخابات 2009 كانت عبارة عن انتفاضة ريفية ضد الأحزاب التي كانت تتحدى نجاد ومن خلفه الولي الفقيه. انتخابات اليوم فيها ما يكفي من المعطيات للاستنتاج بأنها ستكون انتفاضة ريفية ثانية ضد الاقطاع الديني التقليدي. قالها قاليباف علناً قبل يومين، في تجمع انتخابي في ميدان فلسطين بحضور أكثر من مئة ألف مشارك: بعد غد (الجمعة) سنودّع الأرستقراطية (المقصود الاقطاع الديني) وكل من يتظاهر بالثورة الذين كانوا يأتون إلينا ليأخذوا صوراً معنا على الجبهات، ومن ثم يعودون إلى طهران للتباهي بها فيما نحن نصارع البقاء في وجه القذائف والصواريخ».
ومن أبرز الدلائل على فقدان الاقطاع الديني نفوذه حقيقة أن المرشحين الثمانية هذه المرة يمتلك كل منهم وحده جمهور خاص به. أساس وجوده كمرشح واستمراره وقبوله بالتنازل لشخص آخر بات مرتبطاً بمصالحه وبجمهوره لا بمراكز القرار التقليدية الكبرى. ولعل هذا ما يفسر أن جميع الاتصالات والضغوط التي هدفت إلى اقناع جليلي وولايتي بالانسحاب لمصلحة قاليباف قد منيت بالفشل، علماً بأن ولايتي معروف بأنّه لطالما كان يمثل تحالف البازار مع قم، نسخة رفسنجاني في معسكر المبدئيين. بل أكثر من ذلك، كان لافتاً تراجع نسبة مؤيدي ولايتي في استطلاعات الرأي مذ أن أعلنت الأرستقراطية الدينية والتجارية دعمها له. بات دعم هؤلاء لأي مرشح عامل نقمة لا نعمة. وباتت قدرتهم على التأثير في ممثليهم في الوسط السياسي شبه معدومة، فكيف على أشخاص مثل جليلي وقاليباف، اللذين هما أصلاً من المنتفضين ضد هذا الاقطاع الديني، ولا يمثلان لا الجناح الديني فيه ولا الجناح المالي. وإذا صدقت التوقعات، وفاز أي منهما بمنصب الرئاسة، نكون أمام انتفاضة للجيل الثالث للثورة، ثورة في رحم الثورة لتجديد جلدها عبر اسقاط الطبقة السياسية التقليدية. ثورة تقف جنباً إلى جنب مع الولي الفقيه وتدافع عنه، خلافاً لـ«ثورة الأحزاب» عام 2009، التي كانت موجهة ضده.
وبالمناسبة، فإن جليلي وقاليباف كلاهما من أصول مشهدية من محافظة خرسان. هما من أبناء القرى الفقيرة لا أبناء المدن. تربيا في عوائل معدمة، وكل ما حققاه من ارتقاء مجتمعي كان بفضل نضالهما ومثابرتهما وعرق جبينهما. لا سلطات قم ولا بارونات البازار منّت عليهما بشيء. كل هذا لا يعني أن تحالف قم والبازار لم يعد قوة فاعلة في إيران، لكنه بالتأكيد لم يعد جهة مقررة تحدد من يجلس على كرسي الرئاسة في البلاد. 4_ للمرة الأولى، أيضاً، انتهى إلى غير رجعة الانقسام التقليدي بين المحافظين والإصلاحيين. حتى محسن رضائي، الذي يترشح بصفة مستقل هذه المرة، قال بوضوح: «وداعاً للمعسكرين اللذين حكما البلد. تفتتت جبهتا الإصلاحيين والمحافظين».
«هي قمة الانتهازية، والتعبير الأوضح عن الضعف»، يقول متابع لمجريات العملية الانتخابية من داخلها. «روحاني الذي يتحدث اليوم باسم الإصلاحيين، هو أصلاً عضو قيادي في جبهة «روحانيات مبارز»، التي تمثل اليمين الديني المحافظ. «الجبهة نفسها التي ينتمي إليها رفسنجاني»، يضيف قبل أن يوضح أنّ «داعمي روحاني الحاليين، والمقصود بهم خاتمي ومن لف لفيفه مثل مهدي كروبي وغيره، ينتمون إلى «روحانيو مبارز» التي انشقت قبل عقود عن «روحانيات مبارز» باعتبارها تمثل اليسار الديني المسمى إصلاحياً، الذي يتلطى الآن خلف رفسنجاني، الذي يمثل اليمين الديني المحافظ، لا لشيء إلا بغضاً بقاليباف وبجليلي وما يمثلانه. حتى إنهم رشحوا محمد رضا عارف وهم يدركون استحالة فوزه، وسحبوه لمصلحة روحاني لا لشيء سوى ليقولوا لهذا الأخير إنهم مساهمون في فوزه، إذا حصل، وبالتالي يكون لهم نصيب بالنجاح».
5_ للمرة الأولى، أيضاً، قرر الجمهور والنظام إبرام «اتفاق جنتلمان» تقرر خلاله فتح شاشات التلفزة الإيرانية بقنواتها الـ8، وأثير إذاعاتها لجميع المرشحين ومساعديهم وممثليهم، خلافاً للدورات الانتخابية السابقة التي كان يجري فيها الاكتفاء بالمناظرات. واقع سحب التوتر من الشارع وقنّنه في الجسم الإعلامي للنظام.
6_ وأخيراً، كان لافتاً أن جميع من ادعى عام 2009 حصول تزوير في الانتخابات، عاد هذه المرة للمشاركة فيها تحت سقف القانون، الذي شكّك فيه قبل أربعة أعوام. وتكريس حقيقة أن الجميع تحت سقف القانون، يحرمهم حق الادعاء مجدداً بحصول أي تزوير. ولعله السبب الأساس، إلى جانب صلابة النظام وولاء الشعب، ما دفع الغرب إلى التسليم باستحالة التأثير على مجريات عملية الاقتراع.



50 مليون ناخب

يتوجه الإيرانيون اليوم إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس جديد خلفا لمحمود أحمدي نجاد. وينجح، بين المرشحين الثمانية الذين انسحب منهم اثنان، في الدورة الأولى من يحصل على 51 في المئة من الأصوات، وفي حال العكس، ينتقل أول فائزين إلى الدورة الثانية المقرر أن تجري يوم الجمعة المقبل.
یبلغ عدد الناخبين 50 ملیوناً و 483 الفا و 192 شخصاً. ويتوقع أن تراوح نسبة الاقتراع بين 60 و70 في المئة.
وأعلن رئيس لجنة الانتخابات في خارج البلاد كاظم سجادي، ان الانتخابات الرئاسية الايرانية ستُجرى في 96 بلداً و128 ممثلية و290 مركز للاقتراع. وقال سجادي إنه جرى اعداد اكثر من 850 الف بطاقة تصويت للجولة الأولى من الانتخابات في الخارج.
وتتزامن مع هذه الانتخابات، أخرى تكمیلیة للدورة التاسعة لمجلس الشوری الاسلامي في 4 دوائر انتخابیة، وهي دماوند وفیروزكوه، وایلام، وتویسركان، وتنابن. وأيضاً الانتخابات التكمیلیة لمجلس خبراء القیادة لمحافظتي اذربیجان الغربیة وكهكولیة وبویر احمد.
(فارس، إرنا)