في 11 حزيران 2012، كنتُ أحد ضيوف «الميادين» في يوم انطلاقتها. كنتُ متفائلاً بالقناة، لكنّني لم أحسب أنّها ستحقّق كل هذا النجاح في غضون سنة واحدة. وسوف نتذكر، هنا، أنّ «الجزيرة» احتاجت ربّما إلى خمس سنوات لكي تحقّق حضورها المعروف، رغم أنّ الفضائيات الإخبارية لم تكن، في نهاية التسعينيات ومطلع الألفيّة، متزاحمة أو حرّة، كما هي الآن.
«الجزيرة» سقطت في الحرب السوريّة، فقد تحوّلت إلى منبر حربي، وفقدت صدقيّتها ومكانتها وسطوتها على النُخَبْ ونصف جمهورها. ورغم أنّ التغيُّرات التي شهدها العالم العربي في العام 2011، فتح الباب أمام فضائيات محلية تحظى بالحرية وتستقطب المشاهدين في غير بلد عربي، فقد ظلّ هناك مكان فارغ لفضائية عربية فوق _ قُطْريّة. وهو فراغ أتاح لـ«الميادين» أن تتقدّم سريعاً إلى تحقيق الاستقطاب، أي أن تتحوّل إلى قُطْب إعلامي. ربّما بسبب التجربة السابقة لغسّان بن جدّو وسامي كليب في «الجزيرة»، فإنّ «الميادين» ظهرت، في شهورها الأولى، وكأنّها تحاول الاستنساخ من موقع الضدّ، لكنّها بدأت تتخطّى هذا الحاجز وتشكّل شخصيتها وخطّها و«روحها».
رفعت «الميادين» شعار: «الواقع كما هو» تحت عبء الردّ على إعلام عربيّ غرق في الفبركات والأكاذيب والتورّط في إدارة العمليات الاستخبارية. ومن هنا، اكتسب هذا الشعار نوعاً من الأَلَقْ، رغم أنّه غير واقعي وغير ممكن؛ فالواقع متحرّك، متناقض، ولا يمكن تغطيته إعلامياً من دون مقاربةٍ منحازة سياسياً، أي أنّها تتّخذ موقفاً تفاعلياً مع الصراعات الواقعيّة. المعيار، هنا، هو الصدقيّة والانضباط الأخلاقي والمهني.
برهنت «الميادين» على صدقيّتها، ومن الواضح أنّها تقيُّد نفسها بلزوم ما لا يلزم من الحياء والخُلُقيّة، لكن ما يزال هناك الكثير ممّا يمكن قوله حول المهنة.
يجب أن نقرّ، ابتداءً، أنّ «الميادين» قد حقّقت أفضل مقاربة عربية لفلسطين، فلسطين الضائعة والغائبة كليّاً في ما سُمّي «الربيع العربي» عن الوعي العام، استعادتها «الميادين» في كليبات وفلاشات منتظمة لا تنقطع، تُذكّرنا بالمأساة والقضية والعدوّ المركزي، لكنّها، في المقابل، تُرينا الحياة اليومية الاعتيادية في فلسطين _ أو للدقّة ما بقي منها _ لكي تعانق الوجه الإنساني للشعب الأسير.
أحبّ الكليبات والفلاشات والتقارير الفلسطينية في «الميادين»، لكنّ القناة لم تكتشف بعد الحساسية السياسية الفلسطينية المتطابقة مع خطّها وروحها _ أقصد الخطّ الثالث الصاعد في الحركة الوطنية الفلسطينية _ وبقيت، بالتالي، أسيرة الثنائية المضجرة والمفلسة المتمثّلة في «السلطة» و«حماس».
هذه الملاحظة ليست مهنيّة فقط، وإنّما سياسية بامتياز؛ إذ يمكن لـ«الميادين» _ ومن واجبها _ أن تكون منبراً يساعد في بلورة الخط الفلسطيني الثالث، وتعميق خطابه، واستقطاب جماهيره في فلسطين والعالم العربي، أي يمكنها أن تساهم في إحداث التغيير في الساحة الفلسطينية التي تشهد نوعاً قاتلاً من السجال الفائت.
ملاحظاتنا حول التغطية السياسية للشأن الفلسطيني في «الميادين» تنطبق، إلى هذا الحدّ أو ذاك، على تغطية القناة لساحات عربية أخرى. إذ ما تزال تلك التغطية تتحرك في سياقات الماضي، ولا تكتشف الحساسيات والقوى والشخصيات والأفكار الجديدة، لما بعد تجربة 2011 _ 2012.
في الأردن، مثلاً، ما تزال في «الميادين» عقليّة تغطي هذا البلد انطلاقاً من ثنائيّة أطاحت بها التطورات والصراعات، أعني ثنائية النظام/ الإخوان المسلمين. وقليلاً ما تلاحظ «الميادين» الجديد السياسي والثقافي الأردني، فكلا طرفي الثنائية انشقّا على نفسيهما بفعل الحرب السورية، وولدت حركات سياسية جديدة خارج الثنائية، مختلفة نوعياً وفاعلة، ولكنّها لا تحظى بالتغطية... إلا جزئياً ومن قبل الصحافة الغربية، بالدرجة الأولى.
ربّما تكون لتغطية «الميادين» للشأن السوري أبرز إنجازاتها، هنا سنلاحظ الأخبار الخاصة، وتنوّع الاتجاهات والحساسيات، والتقارير المتّزنة والحيوية حول مختلف أوجه الحياة في البلد الحبيب الجريح، لكنّ ما يستحقّ التنويه بحرارة، في تغطية القناة لسوريا، تلك التقارير الميدانية _ التي تتّسم بالجرأة والمهنيّة _ للمواجهات والعمليات العسكرية. وتلمع، هنا، بالتأكيد، المراسلة الحربية أوغاريت دندش، بعينها التلفزيونية الثاقبة وذكائها وقدرتها على فهم الصراع وشجاعتها الاستثنائية. «أوغاريت» هي جوهرة «الميادين» والتعبير الحيّ عن اسم القناة وروحها.
غسّان بن جدّو حاضر، كما هو واضح، في كل إنجازات القناة وأخطائها معاً، لكنّني سأتوقّف عند اقتراحه لما يسمّيه التحليل السياسي التلفزيوني. هذا الاقتراح لم يتبلور خلال العام الأول من عمر «الميادين»؛ فالتحليلات التي يقدمها بن جدّو تطول أو تقصر بين حلقة وأخرى، وتظهر مكتوبة ومطبوخة أحياناً، ومنسابة بلا تحضير أحياناً أخرى، فيها جديد مرّة، وفيها أسئلة وعواطف مرّة أخرى. لكنّ هذه الملاحظات لا تمسّ ذكاء بن جدّو في اختيار موضوعاته وضيوفه وقدرته على تحديد السياق العام لبرنامجه، وكأنّه «مخرج سياسي» يوظِّف المشهد والإيقاع والتقارير والمعطيات والأسئلة والأجوبة والضيوف، وتوقيت استضافتهم، بحيث يقول في النهاية رسالته.
كان سامي كليب لامعاً في «الجزيرة»، لكنّه استكمل عدّته وحضوره في «الميادين». كأنّه كان يُجهِّز نفسه، في حياته المهنيّة كلّها، من أجل القناة التي تكتسب الكثير من ملامح شخصيتها من خلال برنامجه «لعبة الأمم»، الأكثر احترافاً في الإعلام التلفزيوني العربي.
وأختم بالإشارة إلى إنجاز كبير لـ«الميادين» هي أنّها حوَّلت البرامج الدينية إلى منابر فكرية مستنيرة وتقدمية. وهي خطوة غير مسبوقة، وتفتح الباب أمام ولادة نهج جديد في المسيحية والإسلام العربيين: «لاهوت التحرير» (أجراس المشرق، غسّان الشامي) أو «فقه التحرير» (ألف لام ميم، يحيى أبو زكريا).