بعد الحرب السورية، يشعر كل منّا، بالغريزة أو بالوعي غير المكتمل بعد، أن معتقداته السياسية الراسخة لفترة ما قبل الحرب، لم تعد صالحة للاستعمال بعدها. لقد اهتزت الأرض من تحت أقدامنا جميعاً. بعضنا أخذته الحماسة والتطورات اليومية، فلا يدرك أنه تغيّر تحت وطأة الاكتشافات المدهشة لدوافعه ومصالحه الحقيقية، والأهم لإحساسه الوجودي العميق بالحضور والأمان، وبعضنا يتبنّى مواقف لا تعبر عن توجهاته لما قبل الحرب، وبعضنا حائر، وبعضنا دائخ.
في الحروب الكبرى، تولد الاتجاهات الكبرى في التاريخ الاجتماعي للأمم، ما يحكم، تالياً، سيرورة موت أفكار ومعتقدات وأحزاب وهياكل سياسية، وولادة أُخرى جديدة، تستجيب لتجربة الحرب واحتياجات السلام وآفاق التطوّر اللاحق.
الحرب السورية حرب كبيرة، ليس بسبب امتدادها وشمولها وحجم العنف غير المسبوق فيها، ولا بسبب حجم التدخلات الإقليمية والدولية فيها، وإنما، بالأساس، بسبب كونها مثلت وتمثل حصيلة للصراعات المتداخلة (الاجتماعية والطائفية والكيانية والثقافية) في المشرق، وبين المشرق وجيرانه في الخليج وتركيا ومصر، ومع العدو الإسرائيلي والقوى الاستعمارية. وهذه الصراعات التي طالما انفجرت هنا وهناك في بلدان المشرق، لم تعرف شموليتها وذراها إلا في الحرب السورية. يكشف ذلك عن حقيقة أولى هي مركزية سوريا في المشرق، ففي هذه الحرب (التي تشاهدها المجتمعات العربية في الخليج ومصر والمغرب على الشاشات، أو ينسلّ منها تكفيريون للمشاركة فيها) انتهينا، في المجتمعات المشرقية، إلى الانخراط الجماعي فيها، ليس فقط من باب التضامن مع فريق من فريقي الحرب، وليس فقط من باب المشاركة في القتال داخل سوريا، وإنما بمجيء الحرب إلينا، كل في عقر داره، في أشكال مختلفة من العنف الدموي كما في العراق ــــ وجزئيا في لبنان ــــ أو العنف السياسي كما في لبنان والأردن، والأهم تعطُّل السياسة المحلية، والاضطراب العام، والوقوف على حافة الانزلاق نحو انفراط الأمن، وعلى هاوية الاقتتال الداخلي؛ نتوعّد بعضنا بعضاً، وفقا لمآل الحرب السورية. هذه الحرب هي حربنا، الحرب المشرقية.
نخبئ رؤوسنا في الرمال، أو نتجاهل ما نحدسه ونراه ويدور في العقول والقلوب، لكننا نعرف، في دواخلنا، أننا اصطدمنا مع حقيقة أننا نشكّل، في هذا المشرق، أمةً. ولئلا ندخل في سجال بلا معنى ولا جدوى مع القوميين العرب التقليديين، يمكننا القول إن المشرق هو مجال قومي مترابط وخاص. وقد كشفت الحرب السورية، وجوده الفعلي وخصوصيته الباهرة.
نحن ـــ يساريين وقوميين ووطنيين و«مدنيين» ـــ لم نتوصل بعد إلى بلورة هذا الاتجاه الذي نحدس ونرى، نتهرّب منه، بينما عدوّنا الداخلي المركزي، أي التيار السلفي التكفيري الإرهابي، توصّل إلى موقف واضح حول وحدة المشرق، تحت راية «الدولة الإسلامية في العراق والشام». وبغض النظر عن مضمون هذه «الدولة» ودوافعها الطائفية والمذهبية وسعيها الرجعي التدميري، فإن النظر إلى العراق والشام كمجال واحد، هو استجابة صحيحة لما كشفت عنه الحرب، سبقنا إليها، غريزياً، السلفيون التكفيريون. وبالاتجاه المضادّ، أي في جبهتنا وخندقنا، حيث حزب الله يتقدم الصفوف، توصل الحزب إلى أن الحرب في سوريا هي «معركتنا»، و«سنخوضها» و«ننتصر فيها».
في الواقع، وعلى مدار السنتين الماضيتين من الصراع الدامي، سقطت الحدود السياسية بين دول المشرق، أمام متطلبات الحرب المشرقية. هل يمكن للبنان أن ينفصل بالفعل عن سوريا؟ هل بينهما حدود فعلاً؟ هل يمكن للحدود بين المملكة والجمهورية أن تتحدى وحدة سهل حوران في وقت الحرب؟ هل كان يمكن للعراقيين أن يستمروا في العملية السياسية المحلية في منأى عن اشتعال سوريا؟ الجواب واضح. وأخيراً، هل يوجد ما هو أكثر سخفاً من التفكير بإمكانية التوصل إلى حل سلمي مع الإسرائيليين أو مقاومتهم من دون سوريا؟ وهل يمكن احتمال سذاجة المعارضة السورية الديموقراطية التي تتوهّم إمكانية بناء دولة ليبرالية محلية مسالمة في سوريا التي تنعقد عليها كل صراعات المشرق؟
هذه هي، في قلب كل السجالات، خلاصة المشهد: المشرق واحد. وهو منشقٌ، في وحدته، على نفسه (وحدة وصراع الأضداد) بين محور يتشكل من قوى اجتماعية وسياسية وثقافية تؤيّد النظام السوري، وبين محور مضادّ يتشكل من قوى أخرى، تريد اسقاطه. وفي قلب هذا الانشقاق، بالطبع، دوافع طائفية ومذهبية، ولكنها ليست هي الحاكمة؛ ففي سوريا نفسها يصطف قسم أساسي من السُنّة مع النظام، وفي الأردن السُنّي، تنزع الأغلبية بين العشائر إلى هزيمة أعدائه.
دعونا، إذاً، نفكّر في المحطة التالية: صيغة ديموقراطية للاتحاد المشرقي.
8 تعليق
التعليقات
-
هل جاءت الحرب إلينا؟ لا بلهل جاءت الحرب إلينا؟ لا بل نحن من جلب الحرب إلى عقر دارنا، ونحن من قدم لها المبررات الأخلاقية، والأموال، ودماء أبنائنا. أنا لا أتحدث عن القوى السلفية بل عن القوى التي تدعي الديمقراطية والانتماء إلى اليسار. في سوريا كانت الشكوى قبل الحرب من النظام بأنه عطل السياسة،وصادرها بالقمع، واليوم هم من عطلوا السياسة بالبندقية والقتل المجاني والتدمير ، بل أسهموا عن قصد أو غير قصد في تشويه اليسار والفكر القومي والديمقراطية والوحدة الوطنية وفكرة المجتمع المدني. بل أكثر من ذلك هم حتى اليوم يزعمون أن سقوط النظام سيكفل لهم وللمجتمع الفرصة للعودة إلى العمل السياسي. ليتهم يدركون أن الحرب في سوريا أحيت في النفوس الغرائز والأحقاد التي كادت تموت وعادوا بالمجتمع إلى ماقبل السياسة. والسوريون بحاجة إلى عشرات السنين كي يغسلوا آثار هذه الحرب القذرة. نعم سقطت الحدود السياسية بين الدول لكن لتفتح أمام التطرف الديني فقط. ربما لم يفت الأوان بعد، لكن على القوى الديمقراطية ودعاة المجتمع المدني أن تعمل بجدية مطلقة ليس فقط من أجل التخلي عن البندقية فقط ، بل من أجل إعادة الاعتبار إلى السياسة في أذهان من يزعمون أنهم سياسيون أولا وفي أذهان الناس العاديين ثانيا لأن إشراك الناس في العمل السياسي قولا وفعلا (دون بندقية)هو في النهاية العمل لبناء الدولة المدنية الديمقراطية التي نحلم بها.
-
كارل ماركس يتقلب في قبرهكارل ماركس يتقلب في قبره غيظاً.
-
كم رددنا هذا الكلام ,نجح إمامكم رددنا هذا الكلام ,نجح إمام جامع في مشرقنا في جمع أتباع له ماعجز عنه اي كاتب يساري ,نجح أصحاب الفكر الديني في توحيد المنطقة أو ربما إجبارها على التوحيد ماعجز عنه كل القوميون العرب وماذا بعد ؟! ماأنتم فاعلون ؟مزيد من المقالات ومزيد من الخيبات إلى أن نصل إلى خيبتنا الأخيرة ؟ وأين ستكون هذه المرّة ؟البارحة كانت بيروت وبعدها بغداد واليوم دمشق ,على من سيكون المقال القادم بعد خيبة إضافيّة ؟
-
مقال رائع بكل معنى الكلمة بغضمقال رائع بكل معنى الكلمة بغض النظر عن موقفنا مما يجري في سوريا
-
سأترك الرد عليك للأخ "عمر".سأترك الرد عليك للأخ "عمر".
-
اتحاد مشرقي ام وحدة سوريا في حدودها الطبيعية ؟نحن في المشروع القومي الاجتماعي نؤمن ان الارض التي تحيط بها جبال طوروس و جبال البختياي و قوس الصحراء العربية و البحر الابيض المتوسط بما فيها سيناءحتى قناة السويس و جزيرة قبرص وكل ارض اقام فيها السوريون حضارتهم على ضفاف الخليج هي بلادنا و هي البوتقة اللتي تفاعلت فيها مكونات الامة السورية منذ ما قبل التاريخ و حتى الان و هي الهلال الخصيب او هي سوريا في حدودها الطبيعية . شهدت امتنا الكثير من الحروب الاهلية منذ حمل اعظم شعب في التاريخ وهم السومرين مشعل الحضارة امام شعوب العالم واقاموا دولتهم جنوب العراق مادين رؤيتهم الى البحر الكبير اي المتوسط و من يومها صار للملوك السوريين العظام تقليد ان يغسلوا سيوفهم بمياه المتوسط . دعوتنا في القومية الاجتماعية هي : -ان نوحد الارض والشعب مقيمين دولة تتساوى فيهاجميع المجموعات الاعتقادية و السلالية و الثقافية و الاقتصادية في الكرامة امام الشعب و الدولة و القانون . - كما يتساوى فيها جميع الافراد في الكرامة و المواطنة و الحقوق و الواجبات و الفرص . (اذا لم تكونوا احراراً من امة حرة فإن حريات الامم عار عليكم ) الزعيم انطون سعادة.
-
منطق سليم لا غبار عليهإنها امور حقيقية تلك التي تكلمتم عنها ، ومهما كانت نظرتنا الى الدولة السورية وسياستها ، يجب ان ندرك ان سوريا هي العصب الذي ما زال يمسك بالمحيط العربي ، وسوريا التي وقفت ضد تقسيم لبنان ، وهنا سيسخر البعض من هذا الكلام ، سوريا متى تغيرت مواصفاتها ، سيتغير هذا المشرق ..
-
أصبتأصبت سيدي. فالواقع يفرض وجوده و لتقديري هذا ما ستؤول اليه الأمور