ابتسامته الصفراء الخبيثة لم ترتسم على شدقيه؛ حمد كان مبتئساً، وهو يرى سيّده الأميركي نفسه، يقرّ بانتصار سوريا «ولو المؤقت». حمد يفهم الالتباسات جيداً في تصريحات جون كيري. كيري لا يريد أن يرى بشار الأسد رئيساً، لكن بقاءه هو ما يقرره الشعب السوري. معنى ذلك: لا نريده، وسنعمل على تنحيته، لكن ليس نحن، واقعياً، مَن يقرر ذلك. هذه حصيلة عملية صراعية وتفاوضية بين أطراف سورية وإقليمية ودولية. حمَد يعرف هذه الحصيلة مسبقاُ: الأسد باقٍ، وهو مذعور. يلحّ على مهلة زمنية للتوصل إلى اتفاق؛ فالمهل المفتوحة تعني تمكين الجيش السوري من الحسم. الحسم صعب، لكنه يلوح في الأفق، والوقت يمضي. ماذا يفعل حَمَد؟ التدخّل العسكري الأطلسي ـــ الإسرائيلي المشتهى ممكن وليس ممكناً، نتائجه ليست حتمية. فليلعنك الله يا عزمي بشارة!
ظنّ عزمي بشارة أنه يعرف سوريا. ظنّ أن ثرثراته المديدة على شاشة «الجزيرة» يمكنها أن تؤلّف واقعاً سورياً ملائماً لربيع حَمَد. حمَد ذهب حتى النهاية؛ ضربات سريعة مباغتة لدمشق، وتنهار أحجار الدومينو من جنوب لبنان إلى فلسطين إلى العراق إلى إيران، حينها يقرر التاريخ، في جدل الليبرالية وزيت الكاز، انتصار الوهّابية النهائي، وتغدو الدوحة عاصمة العرب. هل تحتاج قَطر إلى عمق أرضي وسكاني وجيوش؟ كلا. القوة، في العالم الافتراضي، أصبحت، أيضاً، افتراضية، تحوّلها المليارات الفائضة إلى واقع: كلّ أرض العرب أرضه، وكل العرب يشاهدون «الجزيرة» ويحصلون منها على أفكارهم وتعصباتهم وأسماء المرشحين المناسبين في الانتخابات. وما ضرورة الجيوش مع كل هذا الفائض من المهمّشين المهووسين المستعدين للموت من أجل حفنة دولارات و70 حورية في الجنة و70 قرص فياغرا؟
هذه هي حفلة الجنون الكبرى التي رآها «المفكر العربي»، «المفكر القومي الديموقراطي التقدمي»: خصوصيتـ(نا) تكمن في أن الدين، وحده، هو الدينامو الشغّال لقيام «الديموقراطية»، والوهابية هي الدينامو الممكن لتحريك فعالية الدين على مستوى جماهيري، الجماهير المفقرة الأمية المهانة الباحثة عن ملاذ، الوهابية هي الملاذ؛ من المحيط إلى الخليج، سوف تهيمن أيديولوجيا دينية واحدة، سوف تنسف هذه الهيمنة القُطريّات ما عدا قَطر، وتذوّب الوطنيات في وطن وهابي واحد، وتُخضع السُنّة للإرهاب المعمّم. المشكلة تكمن في الذين يصعب صهرهم، من الشيعة والعلويين والمسيحيين الخ... يمكن قتلهم! أما العقائد السياسية للمثقفين، علمانيين ويساريين الخ، فهي عوامل هامشية، وبالنسبة لأصحابها يمكن شراؤهم: كن يسارياً ووهّابيا، قومياً ووهّابياً، علمانياً ووهابياً، وبطبيعة الحال، يمكنك أن تكون، بلا تعقيدات، ليبرالياً ووهابياً. الوهابية، إذاً، مشروع «قومي ديموقراطي» تجتمع له وسائل مادية: البتروغاز، والقواعد الأميركية، والتحالف مع العثمانيين، والتواطؤ مع الإسرائيليين، والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، والسلفيين الجهاديين، والمثقفين والإعلاميين و«الجزيرة» وآكلي قلوب البشر.
لكن الآن، بينما يتفكك المشهد كله، ولا شيء سوى الغموض والشك ومخاوف السقوط، يلوك حمَد جمله حول المهلة الزمنية بشدقين يابسين وبمذاق المرارة من انهيار العالم الافتراضي الجميل، عالم الأوهام. يتحسس رقبته، ويقرص ذقنه، ويكزّ على أسنانه، فيظهر شدقاه وارمين.
عزمي بشارة لا يملك من عدّة الفلسفة إلا أرذلها. لم تعد الممارسة الثقافية والكدح الفكري والضمير الحي، أي المثقفيّة كمنهج حياة، هي ما يصنع المفكرين، بل الفضائيات في زمن الثورة الوهابية الثانية التي وجدت في جيش أنصاف المثقفين المتعيّشين، أداة غير متوفرة في صفوفها، ومن بين هؤلاء، تم اصطفاء عزمي بشارة، بسبب الحظ؟ بسبب توصية من جهة يثق بها حمد؟ بسبب كونه ضليعاً في الشأن السوري؟ على كل حال، النظام السوري ـــ الموهوب، تقليدياً، بالوقوع في غرام الأفّاقين ـــ هو الذي صنع عزمي بشارة، ومنحه المكانة اللازمة لكي يكون «بول ولفوتز» الوهابية، في مرحلتها القَطرية.
ليس ذلك غريباً، بل اعتيادي تماما؛ فصقور المحافظين الجدد، عاشقو التغيير الديموقراطي بالوسائل الحربية، نحو اليمين والرجعية، كانوا، في معظمهم، يساريين، بل وتروتسكيين، انتقلوا من مفهوم الثورة الدائمة إلى مفهوم الحرب الدائمة، ومن تحقيق مصالح العمّال والفلاحين بالعنف الثوري، إلى استخدام الأخير من دون أي قيد أخلاقي، لتحقيق مصالح شركات النفط والغاز والسلاح، وفرض الأيديولوجيا اليمينية على شعوب الأرض!