لم تأت قصّة رفض الطيار طوني أبي خليل التحليق فوق الأجواء السورية إلا لتكشف عن نقاش داخلي كان دائراً طيلة الأشهر الماضية في شركة طيران الشرق الأوسط ومحيطها. عشرات التقارير التي كتبها الطيارون بخصوص سلامة التحليق فوق سوريا والمخاطر التي تتعرّض لها الطائرة والركاب ردّت عليها الشركة بالإشارة إلى أن كلفة تغيير الخط تصل إلى 50 مليون دولار، فيما تبلّغ الطيارون من المسؤولين في الأجهزة الأمنية «تطمينات»، أما إدارة الطيران المدني فهي لا تزال شبه غائبة عن السمع. مشاهدات الكابتن أبي خليل عن وجود صواريخ في الأجواء السورية لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، على ما يقول المطلعون. ووفق المطلعين، إن أولى هذه المشاهدات كانت في كانون الأول 2012، حين كانت الطائرة فوق مدينة الشام، حيث شاهد قائدها صاروخين ينطلقان صعوداً في اتجاه الشمال، فأبلغ إدارة شركة طيران الشرق الأوسط بما رآه بوصفه يزيد مخاطر التحليق فوق سوريا ويعرّض الطائرة بركابها وطاقمها لمخاطر إضافية. بدأت هذه القصة تنتشر سريعاً بين الطيارين، ولا سيما أن هناك أكثر من 12 رحلة يومياً تنطلق من لبنان وتعبر الأجواء السورية، وكان الطيارون مهتمين بمثل هذه الأخبار نظراً إلى كونها تزيد مخاطر الطيران ولأنها أيضاً مرتبطة بالحدث السوري وأحاديث الصالونات بينهم.
في المقابل، طلبت إدارة شركة طيران الشرق الأوسط من الطيارين الاستمرار في استعمال الخطوط المتاحة في الأجواء السورية وهما خطّان: الأول يمرّ فوق مدينة الشام، والثاني شرقاً بالقرب من الحدود العراقية. وهذان الخطّان يستعملهما لبنان لبلوغ أكثر من 10 وجهات تنطلق من مطار بيروت الدولي، وأبرزها: أربيل، بغداد، النجف، عمان، جدّة، الدمام، الرياض، دبي، أبو ظبي، الكويت. واللافت، وفق معطيات متداولة بين موظفي شركة طيران الشرق الاوسط ومنقولة عن إدارة السلامة لديها، أن هذه الوجهات تمثّل 40% من رحلات الشركة بمعدل وسطي يبلغ 5000 رحلة سنوياً، إذا استثنيت الرحلات الاستثنائية الموسمية مثل الحجّ ومواسم الاصطياف وسواها... كل هذه الرحلات تمرّ عبر الأجواء السورية، وأي تغيير في هذا المسار يكبّد الشركة مبالغ ضخمة ليس في مقدورها تحمّلها.
إجابة الشركة وإدارة السلامة لديها تركت انطباعاً لدى الطيارين أن هناك صراعاً بين عنصري «الكلفة» و«السلامة»، رغم أن عنصر السلامة ليس أمراً يمكن الرهان على أي تحولات فيه، ويجب إبقاؤه ضمن درجة مرتفعة تكفي للاطمئان. عملياً، برزت عناصر إضافية رجّحت كفّة الميزان لمصلحة الحفاظ على الكلفة الحالية لتشغيل طائرات الـ«ميدل إيست». العنصر السياسي كان أول هذه العناصر. فخلال الفترة التي بدأت مشاهدات الصواريخ تزداد لدى الطيارين، قام عدد منهم بمراسلة نقابة الطيارين والطلب إليها التدخل لوقف الطيران فوق الأجواء السورية، نظراً لما في الأمر من مخاطر إضافية، فما كان من النقابة إلا أن قامت ببعض الجولات على «مسؤولين أمنيين» معنيين بهذا الملف. إجابات الأمنيين لم تكن مشجعة في اتجاه التخلي عن خطّ سوريا، فقد تبيّن للنقابة أن هناك مراسلات بين الاجهزة الأمنية اللبنانية والسورية أدّت إلى ترك هذه الخطوط عاملة، «لأن السوريين أعطوا تطمينات تشير إلى أن الصواريخ التي يتم مشاهدتها بين الفترة والأخرى من قبل الطيارين اللبنانيين لا تمثّل أي خطر عليهم».
على هذا الأساس، استمرت الرحلات فوق الأجواء السورية على الخطين، الشرقي والغربي، إلى أن «قرّرت السلطات السورية إغلاق الخط الغربي قبل شهرين، أي الخط الذي يقع فوق أجواء مدينة الشام، لما بات يمثّله من خطر على الطائرات» تقول المصادر .واستمرّ هذا الوضع، بين التقارير التي يفيد عنها الطيارون، وبين رفض الشركة والأجهزة الأمنية التخلي عن خطّ سوريا، إلى أن قرّر أبي خليل رفض التحليق فوق سوريا وصعّد من حركته من خلال توزيع كتاب على كل الطيارين يطلب منهم التوقف عن التحليق فوق الأجواء السورية، وأنه أول المتوقفين.
عند هذه النقطة، رأت إدارة شركة الميدل إيست أن هذه الخطوة فيها «نوع من التحريض» الذي قد يعرّض الشركة للفوضى في التشغيل، ويمكن أن يتطوّر إلى نوع من الفلتان، على حدّ رواية بعض الطيارين. لا بل إن الشركة أبلغت الطيارين أن هناك إجراءات يجب التقيد بها، فأي مشاهدات من هذا النوع يمكن الإفادة عنها لإدارة السلامة لدى الشركة، وهذه الأخيرة تقدّم هذه الإفادة وتقريرها إلى إدارة الشركة التي ترفعها إلى الجهات المختصة في الدولة، «لأن قرار وقف الطيران فوق الأجواء السورية ليس قراراً عادياً، فهو قرار سيادي يملك أكثر من بُعد» على ما يشير المطلعون.
وبمعزل عن قرار الشركة بمنع أبي خليل من التحليق والمسعى الذي قامت به نقابة الطيارين لإعادته إلى التحليق فوق الأجواء السورية، فإن طبيعة قرار الدولة والعناصر المؤثّرة فيه تتوزّع على أكثر من محور. فإضافة إلى القرار المتصل بالكلفة الإضافية لوقف التحليق فوق سوريا، والتنسيق المتواصل بين الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية التي تنتج تطمينات بأن مسار الصواريخ مختلف عن مسار الطائرات، فإن القرار السياسي يتحكّم في هذا الأمر في كل دول العالم، إذ قد يعدّ قرار التوقف عن التحليق فوق سوريا قرار مقاطعة، «وقد يؤدي إلى دخول متاهة في لبنان المنقسم على نفسه عمودياً بسبب الأزمة السورية، وذلك على الرغم من أن العديد من الدول أوقفت رحلاتها عبر الأجواء السورية لأسباب مختلفة»، يقول المطلعون.