عدنا، إذاً، إلى سنوات السبعينيات _ بالمعنى السيّئ للكلمة _ عادت «اللغة الخشبية» والشعارات الكبيرة الصماء وصار النقاش مستحيلاً. من كان يسخر من الناصريين والبعثيين بسبب استخدامهم المفرط والمستهلك لتعابير «الشعب» و«الجماهير» و«الثورة» صار اليوم أكثر من يلهج بها ويرددها بتقديس، وعلى العكس من أيام الناصرية والبعث، حين كانت لهذه المفاهيم دلالات واضحة ومتّفق عليها، ضمن منظومة أيديولوجية وفكرية متّسقة، لا تحيل هذه التعابير اليوم إلّا إلى الإبهام والتجريد، وإلى معنى ما في قلب القائل.
لا شكّ في أن أكثر ما يثير الاستياء بعد سنتين من الحراك الثوري العربي هو انتشار «النقاش الصوري» _ حتى نستعمل التعبير الأثير لدى ورد كاسوحة _ على حساب الجدال السياسي الجذري حول ما تعنيه هذه الثورات للشعوب وما ستقدمه لها، بالمعنى المادي الحقيقي الملموس الذي يطال معاش الناس وظروف حياتهم.
إذا شئنا أن نكثّف الموضوع إلى الحدّ الأقصى، فسنحاجج بأنّ للسلطة، بمعنى «الدولة»، تمظهريْن أساسيين في الفعل السياسي، وهما مترابطان بشكلٍ وثيق. البعد الأوّل يتعلّق بالدولة في سياستها الخارجية، أي في الكيفيّة التي تمثّل الدولة بها نفسها بين الأمم، والموقع الذي تحتلّه في الاقتصاد العالمي، ودورها في منظومة القوة الدولية. أما المجال الثاني للدولة، فهو يتمثّل بمهمّتها كخادمة للاقتصاد الوطني، تنظّم إنتاج وتوزيع القيمة في المجتمع، وتبني نظاماً قانونياً ومؤسسات لإدارة وحماية هذه «السوق الوطنية». من رامَ، إذاً، تغييراً أو إصلاحاً أو ثورةً، أو حتى نقاشاً سياسياً حقيقياً، فعليه أن يركّز أساساً على هذين البعدين، وهذه قاعدة عامّة في عصر الدول _ الأمم. أما ما يقع خارج هذين المجالين، بما في ذلك مسائل الحقوق السياسية وحدود حرية التعبير ومدى المشاركة والتمثيل، فهي مواضيع نظرية، فلسفية، نسبية، تختلف بين مجتمع وآخر وتتغيّر مع الزمن ويمكن النقاش فيها بلا نهاية. لا يمكن، مثلاً، اعتبار «الحقوق السياسية» مسألة «محسومة» أو «معطاة سلفاً» أو «طبيعية وأزليّة» إلّا إذا كنت تفكّر من داخل منظومة هيمنة غير واعية لنفسها، كالهيمنة الليبرالية القائمة اليوم، أو فكرة «العلم الماركسي»، أو بعض الأيديولوجيات الدينية.
الجرائد والإعلام، بشكلٍ عام وفي أغلب دول العالم، تريد منك أن تتكلّم على كلّ ما هو خارج المجالين المذكورين أعلاه، بالذات لأنها تريدك أن تخوض نقاشات فلسفية وثقافية وحقوقية لا تنتهي، وأن لا تقترب من الأعمدة الحقيقية للفعل السياسي: المال والقوّة. بهذا المعنى، ترى اليوم أن الكثير من شباب الثورة في مصر مشغولون بـ«حروبهم الثقافية»، والاصطفافات ترتفع بحدّة في إطار الصراع على هوية المجتمع المصري، بينما الإسلامي مشغولٌ في الصراع ضد «العلمانية» (أو العكس)، تُعقد الصفقات في العلن ويُحسم كلّ شيء: تُباع مصر للنفط العربي، ويتمّ تأبيد سياسة مبارك ونظام كامب ديفيد، في الخارج وفي الداخل. حتّى إن القلّة من الرأسماليين المصريين الذين هربوا من البلاد إثر الثورة تتفاوض الدولة معهم اليوم لأجل العودة، وهذا أمر طبيعي: طالما أنّه لا شيء سيتغيّر في الاقتصاد المصري، وطالما أن نمط العمل سيبقى هو هو، فما الداعي لإبقاء بطانة مبارك _ ورساميلهم واستثماراتهم _ خارج البلاد؟
بنفس المعنى أيضاً، تجد حركات سياسية في لبنان، وخلفها جيش من الكتّاب والموظّفين، تقفز بسهولة تامة من الترويج للمثل الليبرالية إلى الدفاع عن حقوق الطائفة، وقد تتلوّن _ في ظرفٍ ما _ بلون علمانيّ وتؤيّد الزواج المدني مثلاً. كلّ هذا لا يهمّ طالما أنّه، خلف هذه الواجهة، يبقى النظام الاقتصادي اللبناني هو هو، لا يغير فيه توالي الحكومات ولا النزاعات الأهلية، وما زال المال يُسرق كلّ يوم (بكل ما للكلمة من معنى) من الفقراء والأجراء في لبنان لتمويل النظام المصرفي في توليفة فريدة تاريخياً بين السلطة ورأس المال. من يهيمن على المال والثقافة في لبنان لا يزعجه أن تنشر تحقيقات عن فقيرٍ مات من البرد في شوارع بيروت، ولا أن تهاجم _ بطريقة إنشائية عامّة _ المجتمع والدولة، بل والنظام الطائفي نفسه. كلّ هذا لا يهمّ طالما أنك لا تقترب من جيبه ولا تتكلّم على ارتباطاته الخارجية (العلنية)، وأن تعيش حياتك، مثلاً، وأنت تتظاهر بأن «الويكيليكس» لم تحصل.

في أن تحوز أسوأ ما في العالمين

حين كنتُ ليبرالياً، كنت آمل بصدق أن نعقد، كعرب، نقاشاً عقلانياً «هابرماسياً» هادئاً، متحرراً من المحرّمات ومن شعارات الزمن الثوري، أن نعطي أنفسنا فرصة لإعادة بناء مجتمعاتنا من الأساس، ولو ضمن شروط الهزيمة. ولكن المقدّر لنا، في الوطن العربي، هو أن نحظى دائماً بأسوأ ما في العالمين. حتى الليبرالية التي استنسخت في بلادنا لا علاقة لها بالليبرالية التي آمنت بها يافعاً إلّا من جهة الاسم.
الظروف الدوليّة ساهمت في مصادرة الثورات العربيّة وإخراجها كـ«ثورات ليبرالية»، وهذا مفهوم، فالقوى المهيمنة في العالم اليوم تعتبر أن أيّ نضال شعبيّ هو _ بالضرورة _ نضالٌ للمطالبة بحقوق ليبرالية، وأن الشيء الوحيد التي يمكن أن تطالب به شعوبٌ منتفضة هو الحقوق السياسيّة بمفهومها الليبرالي _ سواء قالت ذلك أو لم تقله (أمّا كل المطالب الأخرى، فيمكن الوصول إليها «من داخل النظام» الديموقراطي). المثير للاستغراب هو أن يصدّق كمٌّ كبير من مثقّفينا هذه الدعابة، فيشرحون لشعوبهم أن نضالاتهم هي من أجل الديموقراطية والانتخابات، وأن مفاهيم مثل «الحرية» و«الكرامة»، التي سقط لأجلها الشهداء، تتجسّد في النظام التمثيلي الليبرالي. المشكلة هي أنّنا نتكلّم على أمرٍ جرّبناه، ومثقفينا _ من المفترض _ يعرفون تاريخهم: هل يستشفّون «كرامة» ما في حياة الفلّاح العراقي أيّام النظام «الليبرالي» في الأربعينيات؟ هل يتوقّعون، حقّاً، من الفقراء العرب أن يثوروا وأن يناضلوا وأن يموتوا، من أجل انتخابات يشارك فيها أقل من نصف الشعب، كما في مصر «الثورية»، أو تشترى مقاعدها بالمال، كما في العراق ولبنان؟
المقصد من هذا الكلام هو ليس القول إنّ النظام الليبرالي سيئ بذاته، على العكس تماماً، لا شيء يعيب نظاماً ليبرالياً ديموقراطياً لطيفاً إن جاء نتيجة توافقٍ شعبيّ ولم يكن هناك بديل أفضل. المشكلة هي أنّنا نحظى، دائماً، بأسوأ ما في العالمين: في أوروبا الشرقية مثلاً، وفي أغلب حالات الثورات الملوّنة، حصل الانتقال الديموقراطي كتعبير مباشر عن تغيّر موازين القوى في العالم، جرى التغيير بسلاسة وفي غضون أشهر قليلة. خرجت التظاهرات وتبنّاها الغرب وبرزت نخب تناسبه وكتب دستور جديد وقضي الأمر، وطوّب جزء كامل من العالم «ديموقراطيّاً» في أقلّ من ستة أشهر. وهذا التحول _ رغم كل الملاحظات عليه _ جرى بكلفة قليلة وحفظ الاستقرار وكان، بالمجمل، قدراً مقبولاً في ظلّ غياب بدائل جدية. أمّا في بلادنا، فإنّ المنظّرين ينبّهوننا من الآن إلى أنّ درب الديموقراطية طويل ومتعرّج، وأن الثورات الحالية ما هي إلّا «خطوة أولى»، ستتبعها مخاضات وانتكاسات و، ربما، حروب أهلية، قبل أن نصل إلى جنّة الحكم الديموقراطي (في كلامٍ بدأ يذكّر بالكلام القديم عن «المجتمع الشيوعي»). بمعنى آخر، يريد هؤلاء أن يبيعوا شعبهم ثورات ليبراليّة، محافظة، باهتة، ولكنها بعنف وكلفة الثورة الصينيّة. تبّاً لهكذا يوتوبيا.
في الجزء الثاني من هذا المقال، أسعى إلى تقديم نقاشٍ نقيض عن جدالات «المنطق الصوري»، أي الغوص في أكثر عناصر حياتنا ماديّة، والنظر إلى الأرشيف الذي يسجّل _ بكلّ شفافية _ عمل المال والسلطة في بلدٍ ما: مدننا وأحياؤها وهندستها. سأقدّم مثال مدينتين، هما بغداد وطهران، غيّرتهما الثورة بشكل عميق. والهدف هو خطّ مسارٍ، من بين مساراتٍ كثيرة محتملة، لعقد مقاربات واقعية وتاريخانية لإمكانيات التغيير في مجتمعاتنا.

بغداد 1958: مدينة الثورة

يُجمع أغلب المؤرخين على فرادة شخصية عبد الكريم قاسم، أوّل رئيس جمهورية عراقي، ويحارون في تفسير شعبيّته وديمومتها، على الرغم من أن قاسم حكم لفترة قصيرة نسبياً ولم يكن عهده بلا أخطاء، وعلى الرغم من أنّ كلّ الحكومات العراقية، منذ عام 1963، عملت على طمس قاسم من الذاكرة الرسمية وعمدت إلى تشويه اسمه، لا يزال الزعيم العراقي يحظى، لدى قطاع واسع من الشعب، بذكرى طيّبة، ويترحّم عليه، إلى اليوم، كثيرون لا يشاطرون مذهبه في الأيديولوجيا وفي السياسة.
من السذاجة أن نعتقد بأنّ الموقع الذي احتلّه قاسم في الذاكرة الشعبية العراقية يعود ببساطة لصفاته الشخصيّة، أو للهالة الدعائية التي نسجت حوله، أو للصورة التي راجت عنه كرئيس محبّ للفقراء ومنحازٍ للمحرومين. الأساس هو أن قاسم وثورته أحدثا تغييرات ماديّة حقيقيّة في المجتمع العراقي، وأثّرا بشكل عميق على ظروف حياة الملايين من العراقيين، والمسرح الذي تبدّت فيه سياسات قاسم بشكلها الأكثر جذريّة كان مدينة بغداد.
قبل ثورة الـ 58، كان نوعٌ من التوتّر المديني قد نشأ في العاصمة العراقية. النازحون الجدد إلى العاصمة، وأكثرهم هاربٌ من الحرمان المدقع في أرياف العمارة والجنوب، ازدادوا بشكلٍ مطّرد منذ أوائل الأربعينيات، بالترافق مع النمو الرأسمالي الذي شهدته بغداد مقابل انحدار مستمرّ لظروف الحياة في الريف الزراعي. أكثر هؤلاء النازحين الفقراء لفظتهم المدينة، لم يملكوا المال حتى يتملّكوا جزءاً «خاصاً بهم» في العاصمة، ولم تعترف بهم الدولة في مشاريعها ومخططاتها. احتلّ النازحون، تدريجاً، أكثر المساحات العامّة والفارغة في بغداد، وبنوا فيها مساكن مرتجلة تسمّى «صرائف»، هي عبارة عن أكواخ بدائية تُسقف بالسعف أو الأغصان أو ما تيسّر. نشأت، منذ تلك الأيام، عنصرية وعدائية مدينية لدى البغادّة ضد أهل الصرائف، الريفيين الفقراء الذين يعيشون على هامش المدينة، ولم تزل آثارها واضحة إلى يومنا هذا.
بعد الثورة بأشهر، كان قاسم يدخل أكبر تعديل معماري في بغداد منذ دمارها على أيدي الحصار والطاعون عام 1831: اقتطع مساحةً كبيرة من أرض الدولة شرق العاصمة، وقسّمها إلى أحياء، ثمّ قسّمت الأحياء إلى قطع أرضٍ فرديّة وزّعت على سكّان الصرائف مجّاناً حتّى يبنوا منازل لهم فيها. هكذا ولدت «مدينة الثّورة». لا يمكن قياس النقلة التي أدخلتها مدينة الثورة في حياة عشرات آلاف العائلات التي كانت تعيش في ظروفٍ تقارب التشرّد. فجأة، صار النازح الريفي ملّاكاً في المدينة، له قطعة أرض ومنزل وصار، هو وحيّه، جزءاً معترفاً به من العاصمة. محبّو قاسم اليوم أكثرهم من أحفاد أولئك الذين عمّروا مدينة الثورة، وجعلوها رمزاً للعراق الجمهوري الاشتراكي.
في نفس الفترة، قام قاسم بإجراء تعديلات جذرية على خططٍ عمرانيّة كان النظام الملكي يهمّ بتنفيذها مستفيداً من عائدات النفط المتزايدة. كانت الدولة تخطّط أحياءً سكنية جديدة في أجزاء مركزية من بغداد، كالمأمون وزيّونة واليرموك، حتّى توزّع منازلها على الضباط وكبار الموظفين. بدلاً من ذلك، قرّر قاسم أن يوزّع هذه المنازل على الكوادر الوسطى في الدّولة: الأساتذة، المهندسون، الموظفون في البيروقراطية. هنا، أيضاً، لا يمكن تقدير النقلة الطبقيّة التي عنتها تلك الإجراءات بالنسبة إلى الآلاف من العراقيين. هؤلاء كانت رواتبهم معقولة، ولكن أغلبهم من أصولٍ اجتماعية متواضعة ومن مختلف أنحاء العراق، وهم لم يكونوا يحلمون بالتملّك في بغداد. فجأة، صار لدى هذه العائلات منزلٌ جميل في أرقى أحياء العاصمة، صاروا «طبقة وسطى» بالمعنى الحقيقي للكلمة.
ما يسمّيه العراقيّون، برومانسيّة، «العهد الذهبي» للعراق في أواخر الستينيات وفي السبعينيات من القرن الماضي، هو عملياً نتاج «بغداد الجديدة» التي رسمها قاسم وأسلافه. والفن والثقافة والعقلية التقدّمية التي طبعت «الفترة الذهبية» تلك كانت نتاجاً لهذه الطبقة الوسطى الحديثة والمتنوّعة التي عمّرت بغداد. اليوم، بعد عودة مال النفط إلى التدفق في بلاد الرافدين، تنشأ طبقة بورجوازية جديدة في بغداد، يمكنك أن ترى العديد من أبنائها سيّاحاً وتجاراً في بيروت أو دبيّ، ولكنّها _ للأسف _ لا تشبه بشيءٍ سالفتها التي بعثرتها الحروب المتوالية، وهذا مردّه _ من بين أسباب أخرى _ إلى أن نوري المالكي ليس عبد الكريم قاسم.
أمّا مدينة الثورة، فقد جارت عليها الأيّام أيضاً، وتغيّر اسمها مرّات عدة وصارت «مدينة صدّام»، والآن، «مدينة الصدر»، ولكن العديد من العراقيين يستحبّون إلى يومنا هذا استخدام اسمها الأصلي: «الثورة». أهملها الحكم البعثي عن قصد، ثمّ تدهور وضعها إلى حدّ الكارثة في سنوات الحصار. حتّى إنّ الروابط العشائرية والقبلية القديمة عادت لترسّخ نفسها في مجتمع «مدينة الصّدر»، بعدما كان أهلها أنصاراً متحمّسين لقاسم وللأحزاب التقدمية واليسارية في الستينيات. على الرغم من ذلك كلّه، أثبت أهل المدينة باستمرار أنّهم بالفعل أبناء قاسم، وأنهم أفضل بكثير من نخبهم التقليديّة التي لا تزال ترفض أن تعاملهم إلّا كعبيدٍ وأقنان. شعب «مدينة الصدر»، على عكس «العائلات السياسية العريقة»، وقف _ بأغلبيته الكبرى _ إلى جانب الحقّ في كلّ المواقف الحاسمة: عارضوا بشدّة غزو العراق، عادوا الاحتلال وحكوماته بعنفٍ وتصميم، رفضوا بلا تردّد مشاريع التقسيم والفدرلة والتزموا خطاباً وطنيّاً عراقيّاً. وهم يفضّلون، في أيّ يومٍ من الأسبوع، شخصيّة كـ«الشيخ الأبيض»، الشهيد محمّد صادق، أو حتّى ابنه (محدود الموهبة) مقتدى، على آل الحكيم وأشباههم.

طهران 1979: «مسكن انقلابي» («الإسكان الثوري»)

أمّا في طهران وغيرها من المدن الإيرانيّة، فقد كان أثر الثورة أعمق وأشدّ من بغداد. يكفي أن نذكر الرقم الذي أورده الباحث آصف بيّات الذي يفيد بأنّ 75% من البناء في طهران بعد الثورة جرى خارج الحدود الرسمية للمدينة. أكثر من نصف طهران الحاليّة تم بناؤه وضمّه إلى العاصمة خلال ثلاث سنوات من نشوب الثورة الإيرانيّة. الوضع في طهران كان يشبه أكثر المدن الكبرى في العالم الثالث: موجات النزوح المتكرّرة من الأرياف خلقت أحزمة بؤس غير شرعيّة تحيط بـ«طهران الإدارية» وتتوسّع جنوباً وشرقاً وغرباً حتّى فاقتها سكّاناً ومساحة. ظروف الحياة في تلك العشوائيات كانت تشبه إلى حدّ بعيد حياة الصرائف في بغداد، علاوة على أن تلك المساكن كانت مهددة بالهدم في أي وقت، ولأن محيط طهران أكثره أملاك خاصّة، فقد أُجبر أهل العشوائيات على الاكتظاظ حصراً في المساحات المشاعية.
يصف الباحث الإيراني «كاوه إحساني»، في كتاب عن اقتصاد إيران، عملية التغيير العمراني التي ألمّت بالمدن الإيرانية، وضاعفت سكانها وغيّرت شكلها إلى الأبد، إثر الثورة. مسألة الملكيّة كانت محور نقاشٍ حادّ منذ بداية الحركة الثورية بين الشباب الراديكالي في صفوف الثورة الإسلامية، الذي كان يحبّذ إعادة توزيع الأرض والملكيّة، والجناح المحافظ بين رجال الدين، الذي كان يصرّ على احترام الملكية الفردية ويعتبر المصادرة (ولو لأهداف اجتماعية وتشاركية) خرقاً للحقوق الشرعيّة. هذا الجدل أنهاه شباب الثورة على طريقتهم، إذ بدأ أهل العشوائيات والمزارعون الفقراء _ تلقائياً _ بمصادرة الأراضي الخاصّة والعامّة واحتلالها وبناء المساكن الدائمة عليها. هكذا بدأت عمليّة «الإسكان الثوري» في إيران.
أغلب سكّان المدن في إيران اليوم هم ممن استفادوا من «الإسكان الثوري»، وأغلب أحياء المدن في إيران هي نتاجٌ لعمليّة «المصادرة» تلك. وهي وضعت الدولة أمام الأمر الواقع، فضمّت الأحياء الجديدة إلى الملاك الإداري للمدن ومدّتها بالخدمات وأنشأت فيها المشاريع، على اعتبار أن قاطنيها هم «أهل الثورة». يقول إحساني إن مساحة طهران تضاعفت بفعل الإسكان الثوري من 225 كيلومتراً مربّعاً عشية الثورة إلى 550 كيلومتراً مربّعاً بعدها بقليل، في حين انفلشت مدينة الأهواز من أقلّ من 25 كيلومتراً مربّعاً إلى أكثر من 75 كيلومتراً. هؤلاء الناس، في جنوب طهران وأطراف أصفهان وفي الأرياف، هم عماد النظام الإيراني اليوم وهم من يؤمّنون له الغالبية الشعبية، وهم من يصوّتون، باستمرار، لصالح المرشحين الأكثر تمثيلاً لخطّ الثورة في كلّ انتخابات.

خاتمة

يقول ميشال فوكو إنّ الهندسة المعمارية أضحت، منذ نهاية القرن الثامن عشر في أوروبا، منهجاً سياسيّاً بامتياز. في عصر الحداثة، أصبحت المدينة هي صورة الدولة، ولم تعد المدينة «استثناءً»، بين الأرياف والغابات، أو مكاناً مميزاً تسكنه أقلية من الناس. بدأت السلطة _ بحسب فوكو _ ترى في المدينة المثال والمخطط الذي تبغي تعميمه على كامل أراضيها. يقول الفيلسوف الفرنسي إنّ العديد من المشاريع الهندسية والأفكار اليوتوبية خرجت في القرن التاسع عشر لإدارة المجتمع وهي تتخيّل البلد على أنّه مدينة كبيرة، والعاصمة ساحته المركزية، والمقاطعات موصولة بعضها ببعض عبر الطرق والعمران، إلخ. لهذا السبب، يمكن فهم الكثير عن تصوّر الدولة للمجتمع عبر تعامل السلطة مع مدنها. الثّورة الإيرانية (وإلى حدّ أقلّ، العراقيّة) كانت ثورة «مدينية» بامتياز، حصلت فيما المجتمع الإيراني ينتقل من حالة مجتمع ذي غالبية ريفية كبرى، إلى مجتمع يقطن أكثر أفراده في المدن. التحوّلات التي طرأت على النسيج المديني لإيران بعد الثّورة كان، كما في بغداد قبلها، انعكاساً لسياسات التغيير التي فرضت نفسها بعد الثورة، ولدخول الملايين من المهمّشين _ مع أولوياتهم ومصالحهم _ إلى المجال السياسي.
بالطّبع، هذه الأمور بعيدة عن اهتمامات قسم كبير من الثقافة «التقدمية» العربية، التي تختزل علاقتها المعرفية بالثورة والمجتمع في إيران عبر ترداد الرواية الطريفة عن أن الثورة صنعها الشيوعيون والأنارشيّون، ثمّ تسللت إليها «الأقلية الإسلامية» وسرقتها. بدلاً من الإيمان الأعمى بالمفعول السحري للديموقراطية الليبرالية، وحتّى لا نجرّب المجرّب مرّة أخرى، الأحرى بمن يريد تغييراً حقيقياً أن ينظر إلى هذه الأمثلة التاريخية، وأن يسأل نفسه: بماذا تعد الثورة أهل العشوائيّات في القاهرة؟ هل أعطت الانتخابات التعددية صوتاً للمهمشين في تونس؟ وما هو الغد الذي ينتظر سكّان الأطراف الفقيرة في المدن السورية، الذين يعيشون اليوم نزوحهم الثاني، وتدمّر بيوتهم وأحياؤهم؟
* كاتب عربي