الدرس الأول الذي تركه لنا هوغو تشافيز (1954 ـ 2013)، هو أمثولة تدعونا إلى التوقف عن ازدراء الإرادويّة؛ فالضابط الفنزويلي الشاب المفعم بحسّ العدالة، كان لا يزال في السادسة والثلاثين، حين قاد، مع رفاق معدودين، محاولة انقلابية لنيل السلطة في بلده النفطيّ المحكوم بطبقة كمبرادورية عميلة لليانكي. تصوّروا! في مطلع التسعينيات، حين كانت دماء الاتحاد السوفياتي ما تزال طرية، وجحافل الشيوعيين واليساريين حول العالم قد انقسمت إلى فريقين، يائسين أو متحوّلين إلى عقيدة العصر، الليبرالية والنيوليبرالية، بينما العصر تحت جزمة قطب واحد وحيد، هو نفسه الجار الشمالي لفنزويلا المحكومة من شركات النفط! رغم كل ذلك، يقرر أحدهم، على رأس عصبة من الشباب، انتزاع السلطة باسم التحرر الوطني والاشتراكية!
لو حسبها تشافيز في 1992، لكان كظم غيظه إزاء الإذلال الوطني والإفقار، وركن إلى الترقّي العسكري، وحرص على مستقبله الشخصيّ! ولو كان ذهب إلى عضوية الحزب الشيوعي، لا إلى كلية الحرب، لكان تعلّم جيداً دروس الشروط الموضوعية الحاكمة للتغيير! ولو كان مجرد مثقف يساري، لكان غرق في حوارات لا تنتهي حول فضائل الليبرالية وآفاق الديموقراطية في زمن الامبراطورية الأميركية.
تحصّن تشافيز بوعيه المصقول بعذابات أهله، وبإرادته الصلبة الثاقبة المعاندة للشروط الموضوعية واتجاهات المرحلة التاريخية، وسار نحو «تغيير فنزويلا بأخذ السلطة»، في انقلاب فشل، وأودى به إلى سجن لم يدفعه إلى التفكير بالتراجع، وإنما إلى تأسيس حركة كفاحية جديدة تضم مبادرين إرادويين من العسكر والنقابيين والمناضلين الشباب، قرروا، هذه المرة، الإفادة من الديموقراطية الليبرالية، لإحداث انقلاب وطني ــــ اجتماعي، ومن ثم السير نحو تغيير مضمون تلك الديموقراطية نفسها، أي نحو «الديموقراطية التشاركية»: لن تذهبوا أيها الناخبون إلى منازلكم بعد الإدلاء بأصواتكم في الصناديق، بل ستبقون في الميدان لتشاركوا في إدارة البلد والمحافظات والمدن والأحياء والخدمات والمشاريع، ستبقون في خضم العمل السياسي بلا انقطاع؛ فالمجتمع الذي يفوّض سياسيين على السمع والطاعة، لا يتحرر. التحرر فعل اجتماعي مستمر، تدخلي، تنموي، نقدي، «... تشاركي».
فاز تشافيز في الانتخابات الرئاسية، العام 1998، وظل يفوز، مذ ذاك، بلا انقطاع في معركة تغيير الاقتصاد (ليغدو عادلاً) والمجتمع (ليغدو مشاركاً في صنع مستقبله) والدولة ( لتغدو حرةً وخدوماً)، ليس من خلال شمولية القمع، ولا من خلال الاستفراد بالسلطة، بل بوساطة الفعالية السياسية الواسعة النطاق للكادحين والفقراء والمهمشين، الذين استطاعوا، بذلك، مواجهة التحدي الانتخابي والإنقلابي لمعارضة يمينية ونصف يسارية، متحدة ومنظمة ومموّلة وجماهيرية أيضاً.
من تشافيز إلى «الحزب الاشتراكي الموحّد» الذي سيقود «اشتراكية القرن الواحد والعشرين»، بعد رحيل القائد، هناك خط متصل من الإرادوية في مواجهة عالم فظ لا يرحم. وفي هذا الكثير من «طريق المسيح» الذي كان يحلو للجنرال الأحمر الحديث عنه؛ فجوهر المسيحية يكمن في المسؤولية الفردية إزاء سعادة المجتمع والبشرية وانتظام الكون، حتى لو كنتَ واحداً وحيداً، ومتّ، كيسوع، على الصليب، أو كالحسين في كربلاء.
لكن إرادوية تشافيز والتشافيزية، بالمقابل، امتثلت، عضوياً، لشروط انتصار واقعية، آن الأوان لليسار العربي لكي يتمثّلها. ما هي تلك الشروط؟ أولاً، العلاقة النضالية مع الجيش الوطني؛ فتجربة تشافيز في الحصول على السلطة واستخدامها من أجل تغيير البلد، لم تكن ممكنة من دون دعم تيار نصير من الضباط والجنود، كذلك، فإن آلاف المشاريع التنموية والخدمية، لم تكن لتنجح من دون الإفادة من العناصر العسكرية التي شاركت، بكثافة، في تجربة فنزويلا التقدمية. على اليسار في العالم الثالث، أن يفكّر، مرة أخرى، بالإجابة على سؤال محوري: هل يمكن خوض المعركة التحررية الاجتماعية، بينما المؤسسة التي تحتكر القوة (وتحتكر القدرات التنظيمية والخبرات التقنية الأكثر حداثة) في قبضة العدوّ أو في قبضة الحياد؟ ثانياً، السيطرة على المجال الثقافي والديني، وتحرير الإيمان الشعبي من قبضة الرجعية، وتحويل السياسة إلى كرنفال للعيش البهيج، لا للقتامة والكهنوت، ثالثاً، الانتباه الفوري لاحتياجات البشر الواقعية، بدلاً من استخدامهم لتحقيق الهدف التاريخي البعيد، من خلال أولوية برامج التنمية الصغيرة والخدمات (السكن، التعليم، الطبابة الخ)، أي تحسين ظروف الحياة في الهنا والآن، كشرط للاندماج الحيّ في المشروع الكبير للتقدم الوطني، رابعاً وأخيراً، معركة العدالة والتنمية، ليست ممكنة من دون معركة التحرر الوطني (التي تكفل السيادة والسيطرة على الموارد)، ومن دون إطار سياسي إقليمي متعاضد؛ ذلك ما دعا تشافيز إلى استعادة سيمون بوليفار، وما يدعو اليسار العربي إلى استعادة جمال عبدالناصر.