تونس المدنية زحفت، كلها، في وداع بلعيد، صوب اليسار. الفاجعة الوطنية، كانت لحظة انفجر فيها الخوف من مستقبل أسود إرهابي تحت حكم الإخونجية والسلفية، وروح التمرد والتطلع إلى الخلاص. هذه لحظة تاريخية، لكن متحركة؛ ذلك أن زخمها، على أصالته، محدود في الزمان ومشروط بإجابة اليسار. جاء أحرار تونس، يستطلعون ما لدى اليساريين: ألديكم تجريدة؟
لكن الإجابة حتى اليوم جاءت رخوة ملتبسة؛ «الشعب يريد إسقاط النظام»، بينما الأحزاب تقع في فخ «حكومة الكفاءات». ضغوط الليبرالية و«شرعية الصندوق» لا تزال ماثلة؛ لا أحد يُمسك باللحظة الثورية المنبجسة من دماء بلعيد الحارة.
لم تتردد جماهير انتفاضة 8 جانفي في تسمية القاتل: «غنّوشي يا سفّاح»، ولم تتردد في تحديد الهدف. كذلك في ميادين مصر: انتفاضة جديدة ضد الأنظمة الكولونيالية الملتحية. الفرصة مواتية لثورة وطنية شعبية مدنية يقودها اليسار في بلَدَي «الربيع العربي». ولكنّ اليساريين والقوميين الديموقراطيين، الذين طالما اشتكوا من العزلة وانفضاض الجماهير، شلّهم الارتباك حين أقبل عليهم الناس أفواجاً.
اسمحوا لي أن أعود إلى فلاديمير لينين. لا تكون الجماهير والمجتمعات جاهزة للثورة دائماً، ولكنها تعانق أشواق التاريخ في لحظة تتكون تحت مؤثرات متشابكة، اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وعاطفية، توقد الشرارة؛ «أمس لم يكن الوقت قد حان، وسيكون غداً قد فات: الآن». الآن، الأنظمة الكولونيالية القديمة، في العالم العربي كله، داخل «الربيع» وخارجه، ماتت تاريخياً، ولا يمكن تجديدها، لا بتحسينها ولا بالدكتاتوريات العسكرية. ولذلك، كان الإسلام السياسي هو البديل الجاهز الممكن القادر على تحشيد قسم من الجماهير بالمخدّر الديني، الطائفي المذهبي الرجعي؛ فبشأن الإسلام السياسي، هناك ثلاث حقائق لا تنفع _ أو لم تعد تنفع _ معها الأقنعة والأضاليل: أولاً، الإسلام السياسي هو الإيديولوجية الممكنة لتجديد اقتصاد السوق النيوليبرالي في مرحلة الانهيار المجتمعي المدني نحو الإفقار والتهميش، المعمّمين. فتدهور مستوى المعيشة إلى حدود شبه المجاعة وانسداد آفاق الحياة، يفجران الغرائز الدينية الفاشية، ويسمحان لمنظماتها بإدارة الفقر الشامل بالانحطاط المدني والاستبداد والتجييش الميليشياوي. ثانياً، كما لا يوجد لدى الإسلام السياسي مشروع تنموي، فإنه يفتقر، كذلك، إلى أي مشروع وطني. بالأساس، نحن صرنا إلى زمن تاريخي لم يعد ممكناً فيه الفصل بين التحرر الوطني والديموقراطية الاجتماعية والتنمية. ثالثاً، إن الخلافات بين الإخوان والسلفية والسلفية الإرهابية، تكتيكية وسطحية وبرّانية. في العمق، لا يوجد انفصال جدي بين تيارات الإسلام السياسي، بل خيوط اتصال وتشبيك في الإيديولوجيا والممارسة.
لم تمر أشهر على نشوء سلطة الإخوان والسلفيين في تونس ومصر، حتى اكتشفت القوى الاجتماعية الحية الخداع؛ لا يوجد لدى الإسلاميين «مشروع نهضة»، بل مشروع لتأبيد السقوط المرير الذي ثارت الجماهير ضده. هكذا، تحولت لحظة إمرار الدستور الإخواني في مصر إلى انتفاضة مستمرة، وتحول استشهاد بلعيد في تونس، خلال ساعات، إلى إعلان الاستعداد لثورة ثانية. وفي الحالتين هبّت رياح اليسار. أعني اليسار بالمعنى الواسع الذي يشمل الفئات المتوسطة والمدنية التي لا يهدد الإسلاميون النيوليبراليون مصالحها الاقتصادية الاجتماعية المباشرة، ولكنهم يهددون نمط حياتها وتطلعها إلى الحريات السياسية والثقافية والفردية؛ هذه الفئات، بتعبيراتها المتعددة، الشبابية والإبداعية الفنية والأدبية والإعلامية والمهنية، وصولاً إلى الأسر البورجوازية التقليدية المتمدنة والأحزاب الليبرالية، تمثّل حليفاً رئيسياً في جبهة الثورة الثانية الحالية، لكنها ليست مؤهلة، ولا يمكنها أن تكون مؤهلة لقيادة إنقاذ المجتمعات العربية من مآل الصوملة؛ فهي لا تملك بذاتها بديلاً وطنياً تنموياً، وليس عندها القدرة لمجابهة المنظمات الفاشية. ويطرح ذلك على قلب اليسار الشعبي في تونس والحلف الناصري اليساري في مصر، مهمة القيادة التاريخية للإنقاذ الثوري غير الممكن من غير القطع مع الإسلام السياسي والتصدي لهزيمته. هل هذه مهمة واقعية؟ بالتأكيد، لكن، أولاً، بالتحرر من خزعبلات الليبرالية وشرعياتها الصندوقية، والإدماج الفوري، كبرنامج عمل مباشر، بين المهمات الديموقراطية والتنموية والوطنية؛ يمكن اليسار أن يهزم الفاشية الدينية، فقط بأن يكون يسارياً، أي بالذهاب، فوراً، إلى طرح مهمات موقوتة وعيانية في مواجهة الإفقار والتهميش والاستعمار الأميركي والإسرائيلي و...القَطري.
7 تعليق
التعليقات
-
ماذا عن لبنانلكل يا صديقي وضعه أين يسار لبنان و الحريات مفتوحة و القيأ ملأ حلوق الناس أين اليسار في لبنان
-
اليسار بين العمى الايديولوجياليسار بين العمى الايديولوجي والخبل السياسي لا يستطيع ان يتبين موقعه او يحدد موقفه ...انه ضحية انكار الواقع من جهة و واقع التنكر لمقتضيات طبيعته كقوة تغيير من جهة ثانية ولن يجدي نفعا النفخ في رماد الشعارات المتشنجة اياها ،وليس المطلوب معايشة المتخيل السياسي او الاجتماعي بل العيش في صميم التناقضات ومكابدة الجدل . ان يسار الكافيار الرخو والمتبرجز لا يستطيع تخليص زهور الحرية من اشواك الاضطهاد فتحول الى حطب لمعركة لم يعد يفهم الغازها ...هل هي احجية نضالية جديدة؟ من قبيل الشبه-شبه وأمثالها...
-
خطر حروب أهلية؟!!نؤيد تماما مواجهة الإستعمار الأمريكي والإسرائيلي والقطري، ولكن قبل ذلك على المعارضات في الدول العربية أن تكف عن الولدنة و"لعب العيال" الذي يمارسونه كولدنة "البلاك بلوك" السخيفة وإستغلال دماء الشهداء بشكل رخيص_كما يحدث الآن في تونس_، الكارثة أن من يعيب محقا على الإخوان المسلمين تصرفهم كجماعة تريد تثبيت حكمها الذاتي، يطرح حلاً مضاداً يقضي بتثبيت حكم جماعة اليسار، يعني لا فرق... وهنا أؤيد كلاما محقا للأستاذ أنيس النقاش عندما قال أن الخطورة تكمن في أن الإنشقاقات تأخذ طابعا عمودياً وباتت المشكلة بين إسلامي وعلماني والمفروض أن الصراع يجري بين برامج سياسية مختلفة. وقد بتنا نخاف من إندلاع نوع من الحرب الأهلية وعلى هذه الخلفية يمكن فهم دعوات السيد حسن نصر الله المتكررة للحوار والهدوء حتى في البحرين..
-
يسار...ناهض حتر..من القلة القليلة القادرة على نبش الامل نبشاً..و عند كل مرحلة او عند كل فشل يقفون و يجدون الامل بتغير سطحي بالمشروع ..بمشاريع جديدة..شعارات جديدة لكنها من المنبع ذاته انتهى دوركم ..لان هذا المنتج قد جربناه ..بل سئمنا تجريبه مع كل فشل يساري و على مر سلسلة تراكم الفشل ..عند كل محطة كان يخرج امثال ناهض ليقولوا: لسه في امل .. الحل يا سيدي لن يكون بالتخدير ..ليس هذه المرة ليس في هذا القرن..فقد خُدرنا منذ تبعات ال٤٨ الى ان سيطر الوطنيون و القوميون على الحكم ..الى نكبة ال ٦١ و الانفصال ..فدقت ساعة العمل الثوري ..الى ٦٧ الى الى وصولا الى بيروت ال ٨٢.. وكان ذلك اخر عهدنا بكم .. انه زمن الصراخ ..صراخكم ، فلا بأس
-
وهل ستترك أمريكا اليسار يقود هذا التحول ببساطة؟وهل ستترك أمريكا اليسار يقود هذا التحول ببساطة؟ هذه سذاجة. سيحاول المعسكر المعادي وبالترتيب: 1) شراء وإغراء قيادات اليسار (التجمع في مصر وعشرات الأمثلة الأخرى لجماعات وأفراد). 2) تصفية الملتزم منها وما حدث في تونس كان آخرها. 3) الإنقلاب علي المنتصر منها (شيلي، أفغانستان، نيكاراجوا، كوبا، فنزويلا كأمثلة). 4) تخريب البلاد التي يهزم فيها وإلهائها بصراعات طائفية (لبنان، العراق، سوريا). لنجاح التحرر الديمقراطي بالتلازم مع التحرر الوطني لابد من شروط، وإلا فالأولوية للوطني بمعنى هزيمة جميع الأيادي المخربة أولا: 1) أن تكون للدولة المنتصرة إمكانيات، إقتصادية بالأساس، للمجابهة طويلة الأمد (إيران وفنزويلا مثالا). الدولة الغنية فقط بإمكانها أن تواجه عشرات القنوات التضليلية بإعلام وطني ضخم وعمليات شراء النخب والأصوات بمشاريع تنموية ضخمة وتوزيع عادل أو شبه عادل للثروات وتشكيل الأحزاب الوطنية الفاعلة والقوية. الديقراطية الحقيقية غير قابلة للتطبيق في دول فقيرة حيث الإنقلاب سهل ويكلف أمريكا وبنوكها العربية عدة مليارات فقط. 2) الدخول في أحلاف فورية مع المعسكر المناقض بمجرد إستلام السلطة وتعزيز التعاون والتكامل الإقتصادي ومعها. وهذا يشترط أيضا إمكانيات بالحد الأدنى، فلم ينفع أفغانستان الشيوعية حلفها مع السوفييت، وهل نستطيع أن نراهن كثيرا على مساعدات شافيز لدول أمريكا اللاتينية؟ بينما بإمكان عراق مابعد صدام والأمريكان من تحقيق الأنفصال التام بتحالفاته الأقليمية وتحديدا مع إيران وسوريا بالنظر لإمكانياته النفطية. أما الدول التي ليس لها هذا ولا ذاك، فلابد من تصفية الأعداء، لأننا نعرف أنهم يخططون للإنقلاب المضاد، ولابأس بنظام دكتاتوري وطني في هذه الحالة، شاء من شاء وأبى من أبى!!
-
موضوع مهم جدا.... جدا. شكراموضوع مهم جدا.... جدا. شكرا على طرحه.