سمّى رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، الأشياء بأسمائها؛ تدحرج «الربيع العربي» إلى ظهور حلفين مذهبيين: «عربي سنّي تركي، وعربي شيعي إيراني»، وأوضح أن خطته لمواجهة هذا الانشقاق ــــ الذي يعصف بالداخل العراقي ــــ الانخراط في «محور اعتدال جديد، يشمل العراق وسوريا والأردن والإمارات والسعودية والكويت وإيران». أظنّها خطة واقعية تنسج عناصرها من المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتتجاوز المخاطر الجسيمة لانشقاق المنطقة، مذهبياً. وهو انشقاق سيواصل الحلف القطري ــــ التركي ــــ الإخواني المصري، تعميقه، طالما أنه الوسيلة الوحيدة لتحقيق طموحات أطرافه. للعراق وسوريا وإيران مصلحة استراتيجية في تجاوز الانشقاق المذهبي السني ــــ الشيعي؛ ذلك أنه يشكّل الأساس الصلب العميق للحرب الدامية في سوريا، حيث يستخدم الحلف المعادي، التحشيد السنّي كحاضنة للمجموعات المسلحة والإرهابية. كما أنه، أي ذلك الانشقاق، يحول دون لحم الدولة العراقية وانطلاق مشروعها الوطني. وأخيراً، فإنه الوصفة الإمبريالية الأكثر فعالية لعزل إيران عن محيطها العربي، وتسهيل ضربها. وبالنسبة للأردن، السنّي مذهباً، فهو لا يخشى الانشقاق الداخلي بالطبع، لكنه يتحسّب لما هو أكثر خطراً؛ فموجة «الأخونة» ــــ المستندة، إقليمياً، إلى السياسة المذهبية للحلف القطري التركي ـــــ تهدد كيانه، نظاماً ودولة. إخوان الأردن لا يخفون تطلّعهم إلى حكم إسلامي يقلب المعادلة الديموغرافية السياسية الداخلية لمصلحة إلحاق الأردن بالمشروع الإخواني الفلسطيني. صحيح أن الإخوان المسلمين تعرّضوا، في الأشهر الأخيرة، لهزيمة سياسية في المملكة الأردنية، لكن استقرار البلد، يظل مرهوناً بهزيمة المشروع القَطري التركي نفسه.
لكن، ماذا عن الدول الخليجية الحاضرة والمحتملة في محور الاعتدال الجديد؟ الإمارات والكويت لهما مصلحة في النأي بالنفس عن موجة «الأخونة» والهيمنة القَطرية، ولا شيء، في تركيبتهما السياسية الاجتماعية الثقافية، يمنعهما من الاعتدال المذهبي، لكن، أيمكن للنظام السعودي ــــ المستند إلى شرعية الوهابية المتشددة، عقدياً، في عدائها لأتباع المذاهب الأخرى، وخصوصا الشيعة ــــ أن يصطف مع المعتدلين مذهبياً؟
للسعودية، بالطبع، تناقضاتها السياسية البالغة التوتر مع مساعي شريكتها في الوهابيّة، قطر، للسيطرة على القرار الخليجي ــــ والعربي ــــ باستخدام شبكة الإخوان المسلمين والقوة الإقليمية لتركيا التي تفور بالأطماع العثمانية. لكن، في المقابل، هناك ثلاثة ملفات أساسية تعرقل السعودية عن الانتظام في محور الاعتدال المذهبي الذي يبشّر به المالكي. وهي، أولاً، ضرورة القوة الوازنة للوهابية والتشدد الديني المذهبي لإدارة المملكة، وثانياً، ضرورة التحشيد المذهبي في مواجهة التمرد السياسي للشيعة السعوديين، وهو ما ينطبق، ثالثاً، على مفصل الأزمة العاصفة في المحمية السعودية اللصيقة، أي البحرين. لكلّ ذلك، ستبقى السعودية، وإلى أن تتمكن من القيام بإصلاحات داخلية جوهرية، في منزلة بين المنزلتين؛ لا تستطيع القطيعة مع السياسات القَطرية التركية الإخوانية، ولا تملك، في الوقت نفسه، ألا تعارضها ولو جراحياً، حفاظاً على مكانتها العربية والإقليمية واستقلالية دورها الإقليمي. إلا أن هذه المراوحة، بالذات، ستظل تشلّ السعودية، واقعياً، عن القيام بدور قيادي.
وصلت السعودية، مع المشروع القَطري التركي، إلى مفترق طرق: الانخراط من موقع غير قيادي في ذلك المشروع، أو الشلل القيادي كما هو حاصل الآن، أو القيام بالحدّ الأدنى من الاصلاحات المدنية ولجم المؤسسة الوهابية وتلبية مطالب التمرد الشيعي، سواء داخل المملكة أو في البحرين. وهو، فقط، ما سيمكّنها من تجديد حضورها العربي والإقليمي، وبالتالي، تأمين استقرارها الداخلي.
على نحو مختلف بالطبع، إنما مطروح بالتأكيد، يواجه صاحب المبادرة نفسه، أي نوري المالكي، ضرورة الحسم مع الأوساط المذهبية الشيعية الرافضة لتطبيع الوضع العراقي؛ فلم يعد ممكناً الاستمرار في سياسات اجتثاث البعث أو تهميش المحافظات السنية أو إقصاء آلاف التكنوقراط السني عن إدارة الدولة ومؤسساتها. آن الأوان لإغلاق هذا الملف كلياً، والشروع في إعادة بناء العراق على أساس أيديولوجية مدنية، مرجعيتها الوحيدة هي الوطنية العراقية.
تكمن في مبادرة محور الاعتدال المذهبي، مفارقة؛ فمحور الاعتدال السابق الذي مات بسكتة «الربيع العربي» كان يقوم بسياسات التفاوض والمصالحة مع إسرائيل، في مواجهة محور الممانعة والمقاومة. وقد أصبح المطلوب اليوم، واقعياً، محور اعتدال يقوم على روح التفاوض والمصالحة بين العرب والمسلمين أنفسهم. لقد هبطنا، إذاً، درجة، بل درجات في سلّم المجابهة مع العدو الإسرائيلي. ومع ذلك، فإن المبادرات السياسية الفعالة، تحددها الضرورات وليس التمنيات. سوى أن علينا أن ننتبه إلى أن عزل وهزيمة الحلف القَطري التركي، ليست مجرد مهمة ذات أولوية في الداخل العربي الإسلامي؛ ففي ذلك الحلف، شريك ثالث، أصبح بعد ضربة جمرايا السورية، علنياً. إنه إسرائيل.