لم يتأخر الوقت للرد السوري على العدوان الإسرائيلي، لكننا نحذّر من أن الوقت ليس في صالح دمشق؛ فالضربة موجعة ومهينة، وإذا لم يكن هناك رد، فسوف تنقلب دلالات الضربة من دلالات مشهد تتحالف فيه الجماعات المسلحة مع جيش العدو ضد النظام الوطني، إلى دلالات مشهد يعجز فيه هذا النظام عن رد العدوان بينما هو منخرط في معركة داخلية ضروس.
الموقف معقد للغاية؛ فمن المعروف أن قدرات سوريا في مجال الدفاع الجوي قد تضررت بصورة مؤسفة جراء اعتداءات «ثوار الناتو» ـــ وربما نقول اليوم «ثوار تل أبيب» ـــ ممن استهدفوا، طوال أشهر، قدرات الدفاع الجوي في بلدهم لحساب أعدائه. كذلك، فإن ثقل المعركة الداخلية كبير ومؤذ، والجيش مشغول بالقتال ضد الحملة الهمجية الإرهابية التي ما تزال تجد، في قلب سوريا، حواضن لها.
ثم أن الردّ على العدوان، قد يقود إلى حرب، بل ربما إلى حرب شاملة، بكل ما تنطوي عليه من مخاطر، وبكل ما تحتاجه من قدرات ربما يكون بعضها قد تعطّل، ودعم خارجي ربما لا يكون جاهزا، ولوجستيات مضروبة في عمق مفكك، ومعنويات متكسرة وسط انشقاقات داخلية ونازحين ولاجئين وجوع وعراء وبرد.
كل ذلك ـــ وأكثر منه مما نعرف ولا نعرف ـــ قد يعرقل القرار بالردّ على التدخل الإسرائيلي الوقح على خط الأزمة السورية، إنما، بالمقابل، لا يوجد مناص من الرد، للأسباب التالية:
أولاً، يظل الرد ـــ بالنظر إلى تجربة حزب الله في 2006 ـــ ممكناً من دون دفاع جوي، ومن دون اجماع داخلي، وبالاعتماد على المنظومة الصاروخية ووحدات المشاة المضادة للدروع. (من المضحك أن المحللين الذين طالما أشادوا بالوسائل القتالية لدى حزب الله وقدرتها على الردع، يتبرعون اليوم بتجاهل آرائهم السابقة تلك، عندما يتعلق الأمر بقرار الرد السوري على العدوان).
ثانياً، بغض النظر عن الهدف الفعلي الذي قصده القصف الجوي الإسرائيلي، فإن كلام الإسرائيليين عن ضرب قافلة سلاح من سوريا إلى المقاومة في لبنان، يدخل في صميم السياسة الإسرائيلية الآن نحو الأزمة السورية. وجدت تل أبيب أنه آن الأوان لإلغاء ستاتيكو الردع السابق وفرض قواعد جديدة: توجيه ضربات في المكان والزمان حسبما يختار الجيش الإسرائيلي في سوريا، ومنع امتلاكها أسلحة استراتيجية أو تطوير قدراتها في هذا المجال، ومنع تزويد المقاومة بالسلاح، وأخيراً، القيام بما عجز الجميع عنه، أي إقامة منطقة عازلة داخل الحدود السورية، بما يحوّل الإسرائيليين إلى لاعب داخلي في أي تسوية في سوريا.
لا يتعلق قرار الرد السوري، إذاً، بالحسابات التكتيكية، وإنما بالحفاظ على استقلال سوريا وسيادتها ودورها، وتحديداً بشرعية النظام السوري نفسها. ينبغي القول، هنا، بصراحة، إن انتقادات عديدة طاولت هذا النظام، صحيحة، ولكنها لم تمس بمحور شرعيته السياسية المؤسسة على التصدي للعدو الإسرائيلي ومنعه من الهيمنة من خلال تطوير القوة العسكرية الوطنية ودعم المقاومات.
ثالثاً، صحيح أن إسرائيل لا تريد الحرب الآن، ولكنها تريد، حتماً، تحقيق أهدافها الاستراتيجية في سوريا، وبالوسائل القتالية التي تشكّل جوهر قدرتها على التدخل في الأزمة السورية. وهي سترفع وتيرة هذا التدخل، أكثر فأكثر، كلما واجهت دمشق، الضربات، مكتوفة اليدين.
في الواقع، لم يعد هناك منجاة من الحرب أو الاستسلام. إسرائيل سوف تفيد من الفرصة المتاحة بلا حدود، ولن تتوقف إلا بالردع.
رابعاً، الخشية من أن الرد السوري سيؤدي إلى عرقلة تسوية محتملة ومأمولة، لا أساس لها. بالعكس، فقد وضعت إسرائيل ـــ من خلال عدوان لم يتم التصدي له وتحديد هدف «مقبول» أميركياً لهذا العدوان هو منع تزويد حزب الله بالسلاح ـــ واشنطن أمام فرصة رابحة للتراجع عن تفاهماتها مع روسيا، والعودة إلى التصعيد السياسي. لقد عاد البيت الأبيض اليوم للحديث الحازم على ضرورة وأولوية رحيل الرئيس بشار الأسد. وهي، بذلك، تريد عرقلة الحل، ومنح المعارضة المسلحة، المزيد من الوقت. ولا يمكننا عدم الربط، هنا، بين نجاح الإسرائيليين في التدخل العسكري في سوريا من دون ثمن، وبين التغيير السلبي في الموقف الأميركي نحو الأزمة السورية. وهو ما ينذر بانهيار كل الجهود الدبلوماسية الروسية منذ وثيقة جنيف حتى الآن.
بالمقابل، فتح التدخل الإسرائيلي في الأزمة السورية، الباب أمام الرئيس الأسد، لكي يحسم، داخلياً وخارجياً، من خلال الحرب. أذكّر بأن عدوان 1956 على مصر لم يسقط عسكرياً، وإنما بإرادة المجابهة لدى الرئيس جمال عبدالناصر، الإرادة التي رممت الانشقاقات الداخلية حوله وهزمت الحلف الخليجي ضده، وكرست زعامته.