أكدت فتوى مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني محنة المشروع التنويري في العالم العربي، خصوصاً بعد ما سمّي بـ«الربيع العربي» الذي بدأ يطرح أكثر من علامة استفهام، منها ما يتعلق بالزواج المدني الذي كانت تونس سبّاقة إليه بين الدول العربية. ففي شهر آب _ أغسطس من عام ١٩٥٦، وقبل إعلان قيام النظام الجمهوري وإلغاء النظام الملكي وتصفية إرثه، اختار الزعيم الحبيب بورقيبة، الوزير الأول آنذاك، إعلان مجلة الأحوال الشخصية من خلال المجلس القومي التأسيسي (البرلمان). وكانت هذه «المجلة» سابقة في العالم العربي الذي ما زال يرزح تحت قيود التخلف والاستعمار آنذاك وتفشّي المفاهيم الغريبة للإسلام.
لم يكن من السهل يومها إمرار مشروع كهذا، يلغي تعدّد الزوجات ويمنح العصمة للمرأة وحقها في اختيار زوجها، ويمنع أي صيغة زواج خارج «الزواج المدني» الذي يعقد في البلديات أو لدى مساعدي القضاء. يضاف إلى كلّ ذلك، أن سطوة شيوخ الدين من مدرسي جامع الزيتونة وطلبته كانت لا تزال كبيرة. لكن الحبيب بورقيبة، المفتون بالنموذج الأوروبي، والتشبع بقيم الإسلام المقاصدي، نجح في إقناعهم وجرى إصدار هذه المجلة التي غيّرت وجه تونس، إذ غيّرت تركيبة الأسرة وحوّلت المرأة من كائن تابع للرجل، محروم من حقوقه، إلى شريك للرجل في الواجبات والحقوق. كذلك فرضت المجلة حق المرأة في التعليم والإرث، ولولا تحفّظ بعض شيوخ الجامع الأعظم الزيتونة (السلطة الدينية العليا) لفرض بورقيبة المساواة حتى في الميراث.
حفظت مجلة الأحوال الشخصية حقوق المرأة في التعليم والزواج والعمل، وقد كانت وراء الحداثة التي عاشتها تونس منذ بدايات الاستقلال، إذ إن المرأة التونسية نزعت عنها مبكراً ذلّ العبودية وتخلصت من هاجس تعدد الزوجات، ودخلت المرأة التونسية الى سوق العمل مبكراً وتغيّرت بنية المجتمع التونسي تماماً.

الردّة

لم يكن أحد من التونسيين يتوقع أن تكون مجلة الأحوال الشخصية محل جدل بعد الثورة التي حررت التونسيين. لذا كانت الصدمة كبيرة عندما خرجت مجموعات دينية لتطالب علناً بالتخلي عنها، وخاصة في باب منع تعدّد الزوجات. وحتى من داخل المجلس التأسيسي، ارتفعت بعض الأصوات التي تطالب بفتح الباب أمام تعدد الزوجات باعتباره حلاً لمشكلة العنوسة التي يعاني منها المجتمع التونسي. وبالتوازي مع هذه الدعوات التي تقف وراءها جهات من الإسلاميين، انتشر الزواج العرفي بشكل ملحوظ قبل أي وقت آخر، إذ إن القانون التونسي يجرّم الزواج «على غير الصيغ القانونية». هكذا، وجدت التيارات الإسلامية في الزواج العرفي حلاً ما دام لا يتعارض مع تعدد الزوجات الذي يجرّمه القانون التونسي حتى اليوم، وتشير بعض الإحصائيات إلى أن مواليد الزواج العرفي في تونس في العامين الأخيرين وصلوا الى ٥٠٠ حالة، وذلك في غياب أي تأكيد رسمي. وأكدت دراسة ميدانية قام بها فريق من طلبة الدراسات العليا في علم الاجتماع في الجامعة التونسية انتشار الزواج العرفي بين الطلبة السلفيين بشكل غير مسبوق.

مسؤولية النهضة

قبل الانتخابات في ٢٣ تشرين الأول من عام ٢٠١١، أعلنت حركة النهضة التزامها بالمحافظة على مكاسب المجتمع التونسي التي راكمها طيلة ستين عاماً من الاستقلال. وقد بدا هذا الموقف غريباً من حركة إسلامية بنت كل مشروعها على معاداة قيم دولة بورقيبة، ولم تخف في أي يوم تعارضها معها. لكنّ عدداً كبيراً من المتابعين للمشهد السياسي رأوا أن حركة النهضة استفادت من أخطائها القديمة في معاداة البورقيبية التي تحظى بشعبية كبيرة في الشارع التونسي، وخاصة إنجازاتها في التعليم وحقوق المرأة والصحة. وقد تبيّن بعد الانتخابات، وصعود حركة النهضة إلى الحكم، أن الاعتزاز بمكاسب دولة بورقيبة فيه نقاش، إذ صمتت الحركة لحدّ الآن على دعوات بعض الإسلاميين من خارجها إلى عودة تعدد الزوجات وإعادة النظر في مجلة الأحوال الشخصية. وقد أكد هذا التوجّه ما ورد في الفصل الخاص بحقوق المرأة في مسودة الدستور الاولى، إذ تم تغيير كلمة المساواة بين المرأة والرجل بـ«التكامل»، وهو ما اعتبرته القوى الديمقراطية والحركة النسوية ردّة حقيقية عن مكاسب المرأة. وقد شهدت العاصمة مساء ١٤ آب، في ذكرى صدور مجلة الأحوال الشخصية، مسيرة حاشدة للنساء التونسيات، وكذلك في عدد آخر من المدن الكبرى، ما اضطر كتلة حركة النهضة في المجلس التأسيسي الى سحب هذا الفصل، وعُدّ هذا انتصاراً للمرأة التونسية.

المرأة الضامن

رغم شدة الحملات ضد مجلة الأحوال الشخصية، ومحاولات السلفيين، وحزب التحرير خاصة، وشق من حركة النهضة، استهداف مجلة «الأحوال الشخصية» التي تضبط شروط الزواج المدني وحقوق المرأة وشروط الطلاق وعدم تجريم الإجهاض وحق المرأة الأم في نسبة المولود لها وتكفّل الدولة بالمواليد خارج إطار الزواج، رغم هذه الحملات ما زالت المرأة التونسية والقوى الديمقراطية تعمل من أجل الدفاع عن مكتسبات المجتمع التونسي، وأوّلها المجلة التي تمثّل العمود الرئيسي لحداثة المجتمع التونسي.



تحرّكات متضامنة... ومندّدة

يعقد «لقاء الحوار الإسلامي»، مؤتمراً صحافياً صباح اليوم في نقابة الصحافة. وفيما لم تذكر «الوكالة الوطنية للإعلام»، الهدف من هذا المؤتمر الذي يدعو إليه «مرجعيات وشخصيات من أهل السنة والجماعة»، أفاد متابعون أنه يأتي للردّ على من هاجموا المفتي الشيخ محمد رشيد قباني.
هذه الدعوة تسبق الحراك الذي كان ناشطون مدنيون يخططون لتنفيذه. إذ اجتمع أمس عدد من الناشطين المدنيين في «زيكو هاوس» لمناقشة كيفيّة الردّ على فتوى قباني.
وقد انقسم المجتمعون بين رأيين، فمنهم من اختار الردّ بشكل مباشر على قباني من خلال تحرّك ينظّمونه ضدّه، بينما أصرّ قسم آخر من الناشطين على أن يبقى حراكهم موجّهاً إلى مجلس النواب المعني بالتسريع، وأن يشكّل حملة ضغط لحثّ وزير الداخلية مروان شربل، كما رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، على تسجيل زواج خلود سكريّة ونضال درويش. لم يصل المجتمعون إلى قرار نهائي بشأن تحرّكهم المقبل أمس، فقرروا توسيع الاجتماع ليضمّ عدداً أكبر من الناشطين والجهات المدنية، ليناقش الموضوع مجدداً عند الساعة السابعة من مساء الجمعة المقبل في 1 شباط.