«كنت واحداً ممن خاضوا الثورة منذ أيامها الأولى... لكننا اكتشفنا وهم الثورة السلمية، ولا سيما بعدما وصل الإخوان إلى الحكم». هكذا صرّح أحد عناصر منظمة «بلاك بلوك» المصرية (الأخبار، 28 كانون الثاني الحالي). وهي جماعة شبابية شبه عسكرية ـــ شبه سريّة، تتبنى الوسائل العنفيّة في مواجهة السلطة الإخوانية.
جماعات مشجعي كرة القدم في مصر، المعروفة باسم «الألتراس»، كانت أول مَن استخدم العنف المدني ضد العنف الإخواني. لكن تلك المنظمات المتكونة في فضاء العصبيات الرياضية ـــ على رغم كونها، في الأخير، تعبيراً سياسياً ـــ إلا أنها ليست، بذاتها، جماعات سياسية، على عكس «بلاك بلوك» المتكوّنة في سياق تفاعلات الثورة المصرية؛ إنها جماعة سياسية ـــ عنفية، منطلقاً وممارسة. فهل تستوحي سميّتها الأوروبية التي ولدت من قلب مظاهرات الحركة المناوئة للعولمة الرأسمالية في نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الجديد؟ أعني أهي جماعة يسارية جديدة؟
على كل حال، جماعة «بلاك بلوك»، ليست سوى علامة على اتجاه عنفي سيتبلور في عدة جماعات عديدة، علمانية ومدنية ويسارية من الشباب الذين فقدوا الأمل تحت ضغط الحكم الإخواني، وفقدوا الثقة بقيادات المعارضة الضعيفة و المترددة والخائفة من تبعات تصعيد العملية الثورية والاستيلاء على السلطة.
نحن، إذاً، أمام مرحلة كسر احتكار العنف الذي كان، حتى وقت قريب، مقتصراً على الأنظمة الاستبدادية والإسلام السياسي. وحين صار الطرفان جسماً واحداً في مصر، وتشابكت مهمات العنف السلطوي والعنف المليشيوي الإخواني والسلفي، ظهرت النزعات العنفية المضادة لدى القوى الشعبية والمدنية والعلمانية، وربما القبطية. هكذا تسير مصر من الثورة السلمية إلى الفوضى والحرب الأهلية. فهل كان ذلك هو القَدَر المحتوم لثورة 25 يناير؟
مآل الذهاب المرجّح نحو العنف المعمم، يعيدنا إلى نقد نظرية دافع عنها أنصار «يساريون» للجماعات المسلحة في سوريا، ومفادها أن سيطرة الإسلام السياسي ستكون مجرد حلقة مؤقتة في العملية الثورية. لكننا نواجه اليوم، في النموذج المصري ـــ وهو الأكثر صفاء وأصالة وحيوية بين نماذج التغيير العربية ـــ خطر انزلاق الحلقة الإخوانية إلى الحرب الأهلية وتفكك الدولة وسقوط المشروع الثوري في براثن فوضى مديدة، لا مخرج منها من دون دكتاتورية عسكرية.
ثورة 25 يناير هي الآن في عنق قوى المعارضة المدنية؛ إذا لم تتخط خضوعها لما يسمى الشرعية الانتخابية، وتتوحد على أساس برنامج صريح في مواجهة الإخوان المسلمين، ويوحد بين الديموقراطية السياسية والديموقراطية الاجتماعية، ويطرح إقامة نظام وطني تنموي كأولوية عاجلة، فسيكون محكوما على تلك القوى بمغادرة الحلبة.
ألفباء الشرعية الانتخابية أنها دنيوية ومؤقتة ومقيّدة، قانونياً وسياسياً، وتخضع، تالياً، لسلطة القضاء وشرعية المعارضة. وأساس ذلك أن الشرعية الانتخابية هي (1) شرعية متحركة، من حيث أن عمرها يمتد حتى الانتخابات التالية لا غير، (2) وشرعية منقوصة بالضرورة، من حيث أنها تمثل الأغلبية (النصف زائد) ولا تمثّل الإجماع، (3) وشرعية سياسية، من حيث أنها تفويض مؤقت بتطبيق سياسات، وليست تفويضاً بفرض صيغة أيديولوجية.
وتشكّل هذه القيود والتحديدات، الفاصل بين الديموقراطية المستحيلة في بلد منهار فعلا كمصر، والدكتاتورية الواقعية التي تستخدم الشرعية الانتخابية كشرعية مطلقة وكاملة وأيديولوجية؛ بحيث تعصف بسلطة القضاء، وتفرض سيطرتها الحزبية والأيديولوجية على الدولة، وتخلط بين الأغلبية البسيطة والاجماع، وتجرّم المعارضة، وتنشئ، في النهاية، نظاماً دكتاتورياً، يبدو فاشلاً حتى في أداء أبسط المهمات الموكولة إلى الدولة، أي بسط الأمن بالقبول الاجتماعي، وليس بإعلان حالة الطوارئ، وتخويل الجيش القيام بمهمات شرطية.
علينا الانتباه، هنا، إلى أن الدكتاتورية تقع في صلب الفكر الإخواني من خلال استراتيجية «التمكين». وهي استراتيجية انقلابية في جوهرها. وهكذا، فإن ما يسمى التطور الديموقراطي لدى «الإخوان» لا يعدو كونه ضربا من البراغماتية في استخدام الوسائل الانتخابية من أجل ضمان تمكينهم من السلطة، والقيام، تالياً، بانقلاب. وهو انقلاب لم ينجح حتى الآن، لسببين، أولهما عجز «الإخوان» عن تصوّر معالجة تقع خارج اقتصاد السوق النيوليبرالي، للأزمة الاقتصادية الاجتماعية المتفاقمة في مصر، وثانيهما استمرارية الدفق الثوري للاحتجاجات الشعبية.
في المقابل، عجزت أي من قوى المعارضة الرئيسية عن المواجهة الشاملة مع العجز الإخواني، وتحويل الدفق الثوري إلى برنامج سياسي لانقلاب مضاد، يحافظ على مدنية الدولة، ويشرع في البناء الوطني التنموي.
إذا ظلت قوى المعارضة المصرية، أسيرة الفكرة الليبرالية التي يستخدمها «الإخوان» لإقامة دكتاتورية، فليس سوى الفوضى الأمنية والتفكك، أو تجديد حكم العسكر.