ثمّة من يلتبس عليه معنى أن يكون المرء في هذه اللحظة بالذات ضدّ الجميع. والمقصود بالجميع هنا الوكلاء المحليون للرأسمال الدولي المقتات على استمرار الأزمة واستفحالها. لنكن واضحين أكثر: لهذا الرأسمال فرعان، الأول «غربي» والثاني «شرقي». «هي ذاتها» قسمة الحرب الباردة مضافاً إليها بعض التعديلات على خرائط تموضع الأذرع العسكرية للرأسمال. كان ضرورياً توضيح هذه النقطة كي لا يفهم أننا في صدد تغليب رأسمالية على أخرى، أو بالأحرى امبريالية على رأسمالية صاعدة. وهذه إشكالية باتت تواجه كلّ من يتعرّض بالنقد من موقع اليسار لدينامية الحرب القائمة.
ففي حين يصرّ البعض على رفد انتقاده للدور الروسي «بعدّة منهجية» تذهب أبعد بكثير من المنظور الاستراتيجي البحت، يرى آخرون أنّ التصويب على روسيا وحدها يترك فراغاً في النظرية التي تردّ كلّ ما يحدث إلى الصراع بين «الامبرياليات». تحضر الصين هنا كتجسيد لهذا الفراغ. فدورها إلى جانب النظام لا يقل أهمية عن الدور الروسي، لا بل يبزّه أحياناً لجهة التبادل التجاري الذي يغذّي شرايين الدولة ويحافظ على دورتها الاقتصادية. ومع ذلك لا يجري التطرّق إلى الدور ذاك كولونيالياً إلا لماماً ومن باب رفع العتب فحسب. وقبل التفصيل أكثر في أسباب هذا الوجل (قل هو الرعب!) من تقريع الصين امبريالياً، دعونا نقلّب قليلاً في صفحات الدعم الذي تقدّمه هذه الأخيرة للنظام ــ وللشعب أيضا ــ. الأمر هنا لا يتعلّق بجدلية الحصار والبدائل، ولا حتى بتغذية اقتصاد يتمحور حول الحرب ودينامياتها. أصلاً لا تحتمل مقاربة الصين للشأن السوري قراءات أخلاقية مماثلة. كلّ ما في الأمر أنها دولة رأسمالية معنية بتوسيع أسواقها وبتصريف إنتاجها الفائض. لكنها بخلاف الامبرياليات الغربية غير معنية بفعل ذلك عسكرياً، ولا يناسبها أصلاً أن تتحوّل فكرة توسيع الأسواق إلى لازمة تتكرّر لمجرّد أن هنالك عملاً عسكرياً يسبقها أو يلحقها. هكذا غدت الحال اليوم. وسوريا ليست استثناء في ذلك. أمامنا الآن تجربة مالي، وعواقبها قد تكون أسوأ بألف مرّة من العواقب المتوقّعة هنا لسبب بسيط هو أن الغزو هناك يسمّى غزوا أو تدخّلاً، فضلاً عن ارتباطه الوثيق بأزمة الرأسماليات الغربية ومن بينها فرنسا. لن يقول الفرنسيون بالطبع إنه غزو لنهب ثروات مالي الغنية جداً، أو لتوفير فوائض تجنّب بلدهم مصيراً مماثلاً لمصير اليونان واسبانيا وإيطاليا و...إلخ. سيبدو ذلك، لو حصل، إقراراً بأنّ فرنسا قد عاودت إنتاج طبيعتها الامبريالية الأصلية. طبيعة لا تناسب انخراط الطبقة السياسية الفرنسية الحالية في «تحرير الشعوب» من ربقة النهب باسم «السيادة الوطنية». لاحظوا كيف يتدخّلون في مالي الآن وتحت أي لافتة يفعلون ذلك: السيادة أيضاً! سيادة النهب والتعامل مع دول نالت استقلالها منذ عشرات السنين بوصفها أسواقاً ومناجم للمعادن الثمينة فحسب. كم سيسخر رامي مخلوف من تذاكي السادة البيض على جمهور يصطفّ وراءهم كالقطيع وهم يحتلّون بلداً بأكمله. على الأقلّ هو ــ أيّ مخلوف ــ لم يخف نهبه لنا، ولم يتذاكَ علينا حين استولى على تجارة الخلوي واحتكرها له ولعائلته. الصين أيضاً هي في هذا الوارد تقريباً. تتعاطى طبقتها الحاكمة مع البلد هنا كسوق يمكن الاستعاضة عنه إذا دعت الحاجة. وإذا كانت الصين تستطيع فعل ذلك فنحن أعجز اليوم بعد كلّ التدمير الذي طاول بنيتنا الإنتاجية من «أن نتعامل معها بالمثل». فالسلّة الصينية باتت الآن «ملاذنا الأخير» في ظلّ انتفاء كافة «الخيارات» الأخرى، وفي ضوء انتهاء العمل بالخطّ الإنتاجي المحلّي (معظمه قائم على الصناعات التحويلية والغذائية) الذي كان يغطّي حاجتنا إلى الاستهلاك من خارج السلّة تلك.
لكن في المقابل هنالك من يتحدث عن «خيار» تركي. دعونا أولاً نوضح الآتي: ليس ثمّة من خيارات أصلاً. بكلمة أخرى الغلبة المعقودة للنظام والمعارضة المسلحة في أماكن سيطرتهما هي من يقرّر عنا شكل العلاقة الاقتصادية مع الرأسماليات القريبة والبعيدة. في الحالتين يحافظ الشكل ذاك على تقليد كومبرادوري درجت عليه الطبقة السياسية السورية منذ «الاستقلال». فكما تندرج علاقة السلطة المافياوية بالصين تحت خانة «التبادل غير المتكافئ»، كذلك الأمر مع المعارضة المسلحة وعلاقتها بتركيا. لو راقبنا مثلاً كيف دمّر النظام البنية التحتية «الصناعية» في بابا عمرو في حمص ــ أثناء قصفه الهمجي للحيّ ــ لوجدنا تفسيراً مقنعاً «لولعه بالتبعية الاقتصادية» تجاه الصين، أو لتهافته قبل ذلك على فتح الأسواق أمام البضائع التركية. البعض أيضاً يتحدّث عما هو أسوأ في سلوك المعارضة تجاه مناطق بعينها: حلب مثلاً. يمكن الحديث هنا عن سياسات بدأت تتبلور للنيل من النهضة الصناعية في المدينة طيلة العقود الماضية. كان ممكناً إدراج سلوك المعارضة المسلحة هناك تحت خانة أخرى لو لم تنتقل الصفة الوظيفية للعنف من ضفّة إلى أخرى. من ضفّة تفكيك المجتمع إلى ضفّة تحطيمه اقتصادياً. لا علاقة للخصومة السياسية بمعناها الضيّق بما فعلته تركيا عبر وكلائها هنا. ومن يفتّش بين ثنايا الاستراتيجيا وحدها عن تفسير لما حصل فلن يجده. ثمّة «كلمة سحرية» اسمها الاقتصاد السياسي، ومن نحتها كان يعرف أن السياسة تعرّف بالاقتصاد لا العكس. بالإمكان اليوم تعميم نموذج سقبا، معقل صناعة المفروشات في ريف دمشق، على معظم المناطق التي باتت تحت سيطرة تركيا اقتصادياً. كان على النظام أن يدرك حين بدأ صناعيو وحرفيو سقبا بالتذمّر من كساد صناعتهم بأنّ الرأسمالية التركية التي فتح لها أسواقه سيتضاعف نهمها إلى الربح كلّما تمدّدت أكثر داخلياً. الآن تحوّلت أجزاء حلب الواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلحة إلى تعبير عن الامتداد ذاك فحسب. والتحوّلات التي طرأت على الأجزاء تلك بعد تدمير صناعتها (يتحمّل النظام أيضا مسؤولية مباشرة عن ذلك عبر القصف الهمجي) وترحيل صناعييها تنتمي إلى نسق في التدخّل يمكن اعتباره «امبريالياً» بشكل أو بآخر. وهو يعبّر عن الامبريالية و«فلسفتها» ــ في طورها الجنيني ــ أكثر بكثير مما تفعل روسيا حين تبعث بأساطيلها الحربية للتنزه في مياه البحر الأبيض المتوسط. فحتى الآن لا يبدي الروس اهتماماً بالأسواق السورية كما تفعل الصين مثلاً، وبالتالي لا ينتمي تدخّلهم إلى جانب النظام ولو بالدعم العسكري إلى الحيّز الامبريالي المشروط دوماً بربط الأعمال العسكرية المباشرة بفكرة الاغراق الاقتصادي. لو أبدت روسيا أدنى اهتمام بذلك لوضعناها ميكانيكياً في الخانة التي تقبع فيها تركيا اليوم. حتى الصين تبدو بلا أسنان في سوريا عندما يتعلّق الأمر بفكرة التدخّل الامبريالي. اهتمامها بالأسواق هنا لا يتجاوز حدود التبادل الذي تتعاطى به مع الدول العربية الأخرى. وهذا ما يصعّب فكرة المطابقة بين ما تفعله الصين وروسيا هنا، وما تفعله فرنسا اليوم في مالي. الطرفان يدعمان أنظمة تعتبر عملياً عميلة لهما (النظامان في سوريا ومالي)، ويجيزان لها ارتكاب ما تشاء من جرائم، إلا أنّ تعيين ما يفعلانه بالتحديد هو من شأن التحليل الاقتصادي وحده. وهذا التحليل يقول بأنّ حراك الرأسماليات خارج حدودها ليس امبريالياً على الدوام حتى لو بدا لنا كذلك في ما خصّ روسيا مثلاً. ثمّة في علم الاقتصاد السياسي ما يحدّد ذلك: نهب الثروات وتوسيع الأسواق. حين تنهبنا روسيا اقتصادياً، أو تستخدم أسطولها الحربي كما تفعل فرنسا في مالي، يغدو سهلاً على المرء أن يتموضع في مواجهتها هي والصين أيديولوجياً. والى أن يحدث ذلك سيبقى نقدنا لها مقتصراً على ذمّ وقوفها المستمرّ إلى جانب النظام وتبرير جرائمه ومجازره بحجّة أنّ خصومه أيضاً مجرمون.
المقاربة هنا يجب أن تكون «أخلاقية» وبعيدة كلّ البعد عن الاستخدام الأيديولوجي المقلوب، وخصوصاً من جانب بعض اليسار المولع بالمماهاة بين رأسمالية روسيا والصين وامبريالية أميركا والغرب. بالمناسبة الغرب هذا مولع بدوره ــ كما سبق أن أشرنا ــ بتحييد الصين عن معركته التي يخوضها بالوكالة ضد النظام و... روسيا. وأسباب الولع ذاك كثيرة، وهي تدخل أساساً في إطار الصراع بين الرأسماليات على الأسواق الجديدة ومواطن الثروات. والحال أنّ الأزمة التي تعاني منها الرأسماليات الغربية اليوم قد حوّرت قليلاً في بنية هذا الصراع، وخلطت أولوياته بعض الشيء. خذوا مثلاً كلام أميركا المتكرّر عن ضرورة خفض الصين لعملتها. حين يقول الاميركيون ذلك، لا يكونون في صدد الكلام مباشرة عن قدرة البضائع الصينية على منافسة بضائعهم في ظلّ سعر الصرف الحالي لليوان. لقد خيضت هذه المنافسة طيلة السنوات الماضية ولم يصدر عن الأميركيين كلام بمثل هذه الحدّة حينها. ما الجديد إذاً؟ ثمّة عجز أميركي واضح عن منافسة الصين اقتصادياً حتى داخل الولايات المتحدة نفسها. عندما تبدي الامبرياليات جزعاً مماثلاً، وتنكفئ داخل حدودها للحفاظ على إغراقها لأسواقها، هنا لا يعود الكلام عن الصراع خارج الحدود مجدياً. لقد نقلت الصين صراعها مع الامبرياليات الغربية إلى داخل حدود هذه الأخيرة، وبات الكلام عن الإمساك الصيني بمفاصل أساسية في اقتصاد تلك الدول جدّياً فعلاً. ليس من قبيل الصدفة أبداً أن تكون الصين المساهم الأكبر في الاكتتاب بسندات الخزينة الأميركية، وأن تحوز فوائضها المودعة هناك القدرة على تحديد سقف الاشتباك بينها وبين المدينين لها. وبما أنّ المدين الأكبر لها اليوم هو أميركا فهذا يعني أن بإمكان الصين أن تتوسّع اقتصادياً قدر ما تشاء، ولكن بحدود معينة هي حدود قدرتها على الإمساك بالاقتصاد الأميركي «المنهك». وهي قدرة ليست بالقليلة إذا ما أخذنا بالاعتبار حجم الناتج المحلي الإجمالي في ذلك البلد ونسب النمو التي يحققها اقتصاده، إلا أنها ليست مطلقة أيضاً. وما سيحدّد استمرارها من عدمه هو مثابرة هذا البلد على بناء قاعدة إنتاجية (ربما نتطرّق مستقبلاً إلى موقع العمّال داخل الصين من هذه القاعدة، وهو موقع أقرب إلى العبودية منه إلى أي شي آخر) قادرة على إغراق الغرب بالسلع التي يحتاج إليها مجتمعه. هكذا لا يعود توسّع أسواقها محّل تساؤل، ولا تعود بحاجة أصلاً إلى من يحمي التوسّع ذاك ويفتح له الطريق عسكرياً. فالصراع الذي تخوضه الصين «ضد الغرب» على الموارد الأولية والأسواق لا يشبه لا من قريب ولا من بعيد ما كانت تفعله روسيا في مواجهته سابقاً. والأرجح أنّ ذلك هو الذي يقف خلف توجّس الصين الدائم من تسوية النزاعات بين الدول بغير الطرق السلمية. خذوا سوريا على سبيل المثال. أمّا من يريد أن يصدّق كلام حكّام بكين عن «الشرعية الدولية» و«ميثاق الأمم المتحدة» فليفعل ذلك وحده، وليتركنا نقول ما نقوله في ما خصّ نزوع هؤلاء إلى تفادي المصير الذي سبقهم إليه ستالينيو موسكو عندما استدرجتهم أميركا إلى سباق التسلّح. ثمّة في النهاية ما يمكن استخلاصه من صراع الرأسماليات على أرضنا. قد تكون حصيلة هذا الصراع مدمّرة أحياناً وقد لا تكون كذلك أيضاً، ومن المفيد في الحالتين ألا نبقى على الحياد. بإمكاننا التموضع ضدّ الجميع إذا شئنا، وهذه هي وظيفة اليسار عموماً، إلا أنّها وظيفة مشروطة بفهم الواقع وبرفضه لاحقاً في ضوء هذا الفهم وحده.
هكذا لا تعود روسيا صديقاً أو عدواً، وكذا الصين، بل مجرّد رأسماليات يستفاد من إنهاكها الامبرياليات الغربية في حالتي الصراع والاتفاق. وما يعزّز موقفنا أكثر هو أنّه في حالة روسيا والصين اتفاق على استئناف الصراع ...«إلى الأبد».
* كاتب سوري