بعد فترة وجيزة من ولادة «المجلس الوطني السوري» في إسطنبول، يوم 2 تشرين أول عام 2011، وفي إحدى التظاهرات التي دفع فيها الإسلاميون المهيمنون على المجلس أنصارهم إلى رفع شعار «المجلس الوطني يمثلني»، كان هناك من رفع أيضاً شعار «هيئة التنسيق لا تمثلني». كان من الواضح، منذ يوم ولادته، أنّ هذا المجلس يرى الهيئة عقبة أمام ادعائه «تمثيل الشعب السوري». عندما دعت جامعة الدول العربية إلى محادثات لتوحيد المعارضة السورية، لم تَدعُ سوى المجلس والهيئة إلى تلك المحادثات في القاهرة. وبعد أيام قليلة من اعتداء أنصار المجلس على وفد الهيئة، أمام مبنى الجامعة العربية، حاول الراعي القطري للمجلس تجاوز هذا المأزق، من خلال دعوة بعض الأعضاء من وفد الهيئة، الموجودين في القاهرة، إلى زيارة الدوحة ولقاء ولي العهد القطري، الذي طلب اندماج الهيئة في المجلس، حيث عرض اغراءات كبرى. وعندما فشل المسعى القطري، بما جابهه به وفد الهيئة، من أنّ الموضوع ليس خلافاً على التنظيم والحصص، بل يتعلق بالخط السياسي وبمواضيع كبرى، مثل التدخل العسكري الخارجي والعنف، مُنع قادة الهيئة من الظهور على قناة «الجزيرة». وعملياً ظلّ هذا الطلب (طلب الاندماج) محور جهود الوفد التفاوضي للمجلس مع الهيئة لخمسة أسابيع، قبل أن يأتي الدكتور برهان غليون إلى القاهرة، ويترأس وفد المجلس، بدلاً من أحمد رمضان، ويوقّع اتفاق 30 كانون أول مع الهيئة، من أجل أن يكون هذا الاتفاق محور لقاء مؤتمر المعارضة السورية، الذي كان مقرراً عقده في 7 كانون الثاني في القاهرة. اغتيل الاتفاق ومات في اليوم التالي، بعدما أدرك الأتراك والقطريون، ومعهم جماعة الاخوان المسلمين، أنّ الاتفاق من حيث دلالاته يقوّض ادعاءات المجلس بتمثيل السوريين، وبأنّ بنوده تخالف، ويمكن أن تعرقل، أجندات معدّة في مسألة التدخل العسكري الخارجي، الذي كان مطروحاً ولم يسحب حتى آنذاك من جدول الأعمال الغربي ـــ التركي، و«العنف» الذي كان آنذاك يُعدّ لكي يجري عبره تحقيق ما يبدو أنّه غير ممكن الحدوث من خلال تكرار سوري للسيناريو الليبي بسبب العقبة الروسية. بين شباط ونيسان، جرت محاولات من المجلس لنيل اعتراف من «مجموعة أصدقاء سوريا»، حيث لم يستطع أن ينال (بسبب التحفظات الأميركية ـــ البريطانية) أكثر من اعتراف بـ«اعتباره ممثلاً للسوريين الساعين إلى التحوّل الديموقراطي»، وهو عملياً جهد انفرط عقده، عندما عُقد مؤتمر المعارضة السورية في القاهرة (يومي 2-3 تموز) وجرى فيه تمثيل المجلس والهيئة وباقي أطراف المعارضة السورية على قدم المساواة، وذلك بعد شهرين من محاولة تركية أخيرة، عندما دعي وفد من الهيئة لزيارة رسمية لتركيا في شهر أيار، وعرض أثناءها مسؤولون في وزارة الخارجية التركية مطلب اندماج الهيئة في المجلس، وبالنسب التي تطرحها الهيئة، لكن مقابل الموافقة على أمرين هما: فصل الهيئة لحزب الاتحاد الديموقراطي، وهو أقوى الأحزاب الكردية السورية، وامتداد لحزب العمال الكردستاني، من عضويتها، وموافقتها على «اتفاقية أضنة»، وهما أمران رفض وفد الهيئة الموافقة عليهما.
عملياً، وفي مؤتمر القاهرة، كان واضحاً التنائي الأميركي عن المجلس، عندما شجّع مسؤول الملف السوري في الخارجية الأميركية، روبرت فورد، على تبني اقتراح تأليف قيادة ائتلافية للمعارضة من الأطراف كافة، تحت اسم (لجنة المتابعة)، وهو ما أيده معظم المؤتمرين في جلسة كان يرأسها علي البيانوني، ثم رفض المجلس نتائج التصويت. ويبدو أنّ هذا التنائي الأميركي جاء بسبب هيمنة الاسلاميين على المجلس، وعدم قدرته على تمثيل الأقليات. تعزّز هذا الاتجاه الأميركي بعد مقتل السفير الأميركي في بنغازي على أيدي اسلاميين، والقناعة الأميركية بأنّ حصاد التغيّرات العربية يمكن أن يكون مغايراً لسقوف التوقعات الأميركية، تماماً مثلما حصل لواشنطن بعد غزو أفغانستان والعراق.
بدون هذا، لا يمكن فهم شهادة وفاة «المجلس الوطني السوري»، التي أعلنتها الوزيرة هيلاري كلينتون، يوم 31 تشرين أول2012. هذه الوفاة، التي أتت دون جنازة، تأكّد حصولها في 11 تشرين الثاني، بعدما ظلّ أصحاب المجلس ينازعون عملية الوفاة في تلك الفترة الفاصلة، قبل أن يجبروا على ارتداء القميص الجديد في «الائتلاف الوطني السوري». وفي 12 كانون أول في مراكش، رعت أميركا «الائتلاف» الجديد، لكن مع بقاء الإدارة التركية ـــ الفرنسية ـــ القطرية له. لا يمكن فهم قيام هذا الكيان السياسي السوري الجديد من دون اقتراب نذر الاتفاق الأميركي ـــ الروسي على تسوية الملف السوري، واحساس واشنطن بأنّ المجلس ليس بالأهلية الكافية لملاقاة ذاك الاستحقاق.
الآن، يأتي استهداف «هيئة التنسيق» في مرحلة ما بعد تشكيل «الائتلاف» من جهتين: من أطراف هذا الكيان السياسي الجديد (الذي هو عملياً إعادة تجميع للمجلس والمنشقين عنه مع إضافات قليلة) الذي يشعر باستمرار منافسة الهيئة القوية له، وخاصة في مرحلة اقتراب التسوية للأزمة السورية. في وقت وافقت فيه الهيئة على كل المبادرات للحلول، بينما لم يوافق المجلس، وبعده الائتلاف، على أيّ مبادرات. ويشعر أعضائهما بأنّ رعاتهما في واشنطن، وأنقرة، وباريس، والدوحة سيجبرونهم على شرب الماء من تلك الساقية رغماً عنهم، تماماً كما حصل يوم أخذت كلينتون دور القاتل والقابلة القانونية لكيانين سياسيين سوريين.
ومهما كتبوا عن رفض التسويات، فإنّ الأمر سيختلف عندما تشير واشنطن إلى شيء معاكس. طبعاً، يدخل هنا في المنافسة عامل الاستقطاب الدولي ـــ الاقليمي، الذي يجعل المحور الغربي ـــ التركي في مواجهة تكتل روسي ـــ صيني ـــ إيراني (مع باقي دول مجموعة البريكس) يرى الهيئة في موقع الأقرب له، والأكثر اعتدالاً بالقياس للإسلاميين الإخوانيين والسلفيين. وتضاف إلى هذه الدول مصر، التي تجد مصلحتها في عدم تورم القوة التركية.
من جهة ثانية، يأتي استهداف الهيئة، أيضاً، من أطراف عربية تشعر بأنها خرجت من مولد (الائتلاف) بلا حمص. وهي حاولت الرد على ذلك، بعد ثلاثة عشر يوماً، من خلال إنشاء كيان سياسي جديد، في القاهرة، أطلق عليه اسم «التحالف الوطني الديموقراطي»، لكن يبدو أنه لا يغني ولا يسمن عن جوع. في شهر كانون الأول الماضي، جرت محاولات من جهات محسوبة على تلك الأطراف العربية لنهش لحم الهيئة، عبر إغراء أعضاء في مكتبها التنفيذي، من أجل الانشقاق والانتقال إلى القاهرة مقابل مبالغ مالية كبيرة، ولإنشاء كيان سياسي جديد من منشقي الهيئة ومن (التحالف)، لكي يكون هذا الكيان ورقة مساومة في يد تلك الأطراف العربية في اتجاهين محتملين أو مفترضين: افشال التسوية، أو المشاركة فيها عبر هذه الورقة.
هل يأتي كلّ هذا في إطار افشال الدور الكبير الذي سيؤديه معتدلو المعارضة السورية في مرحلة التسوية القريبة بخلاف متطرفيها، تماماً مثلما حصل في التسوية اليمنية، حيث برز فيها معتدلو النظام والمعارضة، بخلاف متطرفيهما؟
*كاتب سوري