لم تحدث مصالحة عميقة في العراق؛ سيؤدي ذلك، باستمرار، إلى تمفصل الخلافات السياسية الممكنة في ظل نظام فدرالي ونيابي، على الانقسامات الهيكلية للعصبيات الإثنية والطائفية والمذهبية. النزعة الانفصالية في كردستان العراق لم توضع على جدول أعمال حوار وطني يستهدف تحويل الفدرالية إلى صيغة للاندماج الديموقراطي. بالعكس، تحولت صيغة لانفصال يتجذّر، وليس له، في النهاية، سوى قبول بغداد بانفصال كامل للإقليم الكردي أو تحجيم الفدرالية إلى حكم ذاتي في سياق الدولة الوطنية العراقية. وما دام هذان الخياران ممنوعين حتى الآن، فسيكون أكراد العراق في موضع الأقلية التي تضطهد الأكثرية، تأخذ من العراق أكثر مما تستحق ولا تعطيه شيئاً.
ما يتيح للأكراد اللعب من موقع القدرة المختزنة الجاهزة للاستخدام تواً، هو تماسكهم على أساس قومي، في مواجهة أكثرية عربية منقسمة على أساس مذهبي (شيعي ـــ سنّي). سيمنح ذلك القيادات الكردية هامشاً واسعاً للانخراط في علاقات إقليمية ودولية، سياسية ونفطية واقتصادية، لا تكرّس الانفصال فحسب، بل تفتّ في عضد الحكومة المركزية في بغداد.
هناك محفّزات عديدة (الفشل في الإعمار، وتدنّي الخدمات العامة، والبطالة... إلخ) للاحتجاجات الشعبية في العراق العربي كله. لكن ما عُرف بالمثلث السنّي في غرب العراق يعاني من مظلوميات خاصة به أيضاً، سواء على المستوى المطلبي أو على مستوى تصفية ملف الاعتقالات، أو على مستوى عملية اجتثاث البعث... إلخ. إنها ملفات نشأت عن الانتقال الدموي المعقّد، عبر الاحتلال الأميركي، من نظام صدام حسين، نظام الدكتاتورية الوطنية، إلى نظام نيابي يقوم على المحاصصة القومية والمذهبية والطائفية. ومن الواضح أن هذه الصيغة غير قابلة للحياة، ما فرض على رئيس الوزراء نوري المالكي العمل البطيء ولكن المستمر نحو إقامة حكومة مركزية تستخدم الوسائل الدكتاتورية، من دون تمييز طائفي.
الاحتجاجات التي يعترف المالكي بشرعية مطالبها في المثلث السنّي أخرجت كل الشياطين معاً: النزعة الانفصالية، ونزعة الولاء المذهبي للأتراك والسعوديين والقطريين على حساب الولاء الوطني للعراق ـــ وفي المخيال الجمعي السنّي تماثل هذه النزعة نظيرتها لدى الشيعة المتهمين بالولاء المذهبي لإيران على حساب الولاء للعراق والعراقيين.
بطبيعة الحال، لا يمكننا النظر إلى احتجاجات المثلث السنّي بوصفها حدثاً داخلياً معزولاً عن السياق الجيوسياسي الإقليمي، حيث نشهد صعود ما يمكن تسميته بـ«الصحوة السنيّة»، سواء في إطار المشروع التركي القطري المصري ـــ الإخواني ـــ أو في إطار المشروع السعودي المستند إلى الوهابية والسلفية الجهادية المستمرة في عملياتها الوحشية ضد الجماهير الشيعية، والتي تداخلت مع بقايا حزب البعث العراقي الذي تخلى عن منطلقاته القومية والعلمانية وانضم إلى الجبهة السنيّة.
احتجاجات المثلث السنّي العراقي تستكمل الانتفاضة السنيّة في سوريا، والتمرد السنّي المضبوط في لبنان، وتحوّل الفلسطينيين في الوطن والمخيمات المشرقية إلى الانضواء في التيارات الإخوانية (الحمساوية) والسلفية والوهابية. ويحدث ذلك كله داخل كماشة تركية ـــ مصرية ودعم سعودي وتفاهم واقعي مع إسرائيل بالوساطة القطرية. فالعدو الإيراني المشترك يفرض التفاهمات بين الخصوم، في السياسة وعلى الأرض معاً.
يستبطن المشروع السنّي المطروح اللقاء مع إسرائيل، ليس فقط لأسباب براغماتية تتعلق بالحصول على رضا الولايات المتحدة، بل أيضاً لأن المشروع الشيعي المقابل يجمع أوراقه على محورية المواجهة مع الإسرائيليين.
علينا ألا نستصغر خطر التقسيم في العراق، لئلا نجد أنفسنا، عمّا قريب، وجهاً لوجه أمام استحقاقات صعبة للغاية، بما في ذلك الاضطرار إلى الحفاظ على وحدة العراق بالقوة. وفي رأيي أن المالكي يستطيع أن يبادر إلى مقاربة مختلفة نوعياً تشتمل ليس على الاستجابة الفورية للمطالب الشعبية فقط، بل الاستعداد الجدي لمراجعة كامل ملف اجتثاث البعث، صامّاً أذنيه عن صرخات الأحقاد من قوى شيعية.
ما يحتاج إليه العراق اليوم هو الكفّ عن الروح الانتقامية في إطار ميثاق للحقيقة والمصالحة ينهي متعلقات المرحلة السابقة بقضّها وقضيضها، وخصوصاً أن العراق يحتاج إلى مئات الآلاف من الكوادر المؤهلة التي هي اليوم خارج الخدمة بسبب الاجتثاث وروح الانتقام.
المشهد السوري ـــ العراقي، بما يشقّه من خطوط تماس مذهبية وطائفية قاتلة، يطرح، تواً، الدور الأردني الإيجابي الممكن على الجناحين معاً. الأردن ـــ الذي حسم مع المشروع الإخواني السلفي لصالحه كما لصالح الدولة والتسوية والسلام مع سوريا ـــ يمكنه أن يلعب دوراً جدياً في عملية مصالحة مجتمعية سياسية في الجنوب السوري المحاذي، كما يمكنه ـــ وتحفّزه هنا مصلحة حيوية سياسية واقتصادية ـــ أن يلعب دوراً إيجابياً في تلافي نزعة الانفصال السنّي في العراق. أكثر من ذلك، هناك أرضية سياسية لتنسيق أمني فعال بين عمان وبغداد ودمشق، في إطار استراتيجية استئصال الإرهاب على مستوى الهلال الخصيب.