ظهور الغائب الكبير فاروق الشرع في «الأخبار»، يشكّل، بالطبع، حدثاً صحافياً من الدرجة الأولى. لكن الزميل إبراهيم الأمين، استناداً إلى معطى أو إلى رأي، اعتبره «مبادرة». وفي الحالتين، يمكن، بل يُرجَّح، كما لاحظ سياسيون وكتّاب متابعون، أننا بصدد مبادرة ربما تقترحُ الشرعَ وسيطاً سورياً بين الأطراف الداخلية للأزمة في البلد الجريح.
هل هناك فرصة؟ كلا؛ فسورية انزلقت، بالفعل، إلى حرب مركّبة من أربعة مسارات متشابكة، هي: (1) مسار داخلي يتمثل في تمرد مذهبي طائفي، يشتمل، حتماً، على صنوف شتى من الاحتجاج الاجتماعي، لكنه وصل إلى انفلات غريزي جنوني لم يعد ممكناً معه التواصل السياسي في المدى المنظور. إن المشاهد المتكررة لسوريين، مواطنين ومقاتلين، يرقصون طرباً ويسجدون شكراً لله الذي مكّنهم من إحراق حسينية أو ذبح سوريين آخرين من دين أو مذهب آخر، يعني أن جماعات من المجتمع السوري قد خرجت من حدود أيّ عقلانية، وتالياً من حدود أي معالجة سياسية. (2) ومسار أممي يتمثّل في الحرب المفتوحة التي تشنها أممية الإرهاب السلفي الجهادي ضد المجتمع والدولة في سورية. ويشكّل هؤلاء المقاتلون الآتون من كل أنحاء العالم القوّة الضاربة الرئيسية للجماعات المسلحة في سورية، ويقومون بالأدوار الأكثر إقداماً وإجراماً وأذى، من التفجيرات الانتحارية إلى الاقتحامات الصعبة إلى قتال الأحياء الخ. ويحظى هؤلاء المقاتلون بالتغطية السياسية المحلية من قبل الإخوان المسلمين الذين رفضوا، علناً، إدانة «جبهة النصرة» التي ينسّقون معها ميدانياً وسياسياً، ويعتبرونها، واقعياً، رافعة الجهاد المذهبي الطائفي في سورية. كذلك، يحظى المقاتلون المحليون والإرهابيون الأمميون بالتغطية السياسية غير المباشرة حتى من قبل أطراف المعارضة المدنية التي طالما غضّت الطرف عن الإدانة الصريحة للعمليات الإرهابية، وما تزال تركّز على مطالبة النظام بوقف عملياته في مواجهة الحرب الضروس للأممية الإرهابية. والسؤال يدور، هنا، حول كيفية مواجهة تلك الحرب. وهي مواجهة سيكون على أي نظام لاحق في سورية أن يقوم بها كشرط للاستقرار وفرض الأمن في البلاد. (3) مسار إقليمي أصبحت له دينامياته الخاصة به، ويتشعب بين تركيا، ولها مطامعها المعروفة في الأراضي السورية، وقطر التي تقود المشروع الإخواني الإرهابي على مستوى المنطقة وتموّله وتسلّحه حتى خارج التفاهمات مع السيد الأميركي، والسعودية، ولها أحقادها العميقة نحو الدولة السورية التي يؤمّن انهيارها وتفككها وسيطرة الإسلام السياسي المتطرف عليها استراتيجيتها في الحفاظ على مملكة من العصور الوسطى. (4) مسار إمبريالي له مصلحة في إدامة الحرب على سورية، بما يكفل إضعافها واستنزافها وإخضاعها للسياسات الغربية والسلام مع إسرائيل. غير أن القوى الإمبريالية التي تستخدم أممية الإرهاب السلفي الجهادي، المدعومة إقليمياً، (وهو ما يعفيها من إرسال الجنود والمعدات والأموال إلى ميدان الحرب)، لها تحفّظات عن المسارات الثلاثة السابقة، وتريد ضبط إيقاعها واستخدامها في التفاوض مع الروس للتوصل إلى تسوية عنوانها: وقف الحرب مقابل تغيير استراتيجيات الدولة السورية واستلحاقها، في حين تلحّ موسكو وطهران وبكين على تسوية حل وسط.
على هذه الخلفية، يغدو خطاب الشرع «حكيماً»، ولكن بلا جدوى. وهذا هو السبب الجوهري لكون الرجل المحترم «داخل الحدث، وخارج مطبخ القرار». واقعياً؛ هل من الممكن مواجهة الحرب ـــ وقد أصبحت معظم عناصرها خارجية ومتعددة الأجندات ـــ إلا بالحرب؟ وهل يمكن لقائد جدي يدافع عن وجود الدولة، أن يستنكف ــــ كما يريد هيثم مناع مثلاً ـــ عن استخدام المدفعية والطائرات الحربية؟ وهل يجوز لنائب رئيس الجمهورية العربية السورية أن يحطم معنويات جيشه بالقول إن أياً من الطرفين لن يحسم المعركة؟
ليس أمام الحل العسكري المعتمد من قبل المعارضة المسلحة سوى حل واحد هو الحل العسكري. وليس هناك من هدف واقعي سوى النصر. ولا توجد، في مواجهة الإرهاب الأممي، سوى مهمة واحدة ذات معنى، هي مهمة استئصاله. وكل ما عدا ذلك أكثر حكمة من أن يكون عقلانياً بالنسبة لقائد يخوض معركة مصيرية، كالرئيس بشار الأسد الذي يقاتل، منذ ما يقرب من سنتين، قتالاً بطولياً دفاعاً عن الدولة السورية ووحدتها ودورها. وقد آن الأوان، لكي يُنصَف هذا القائد الصلب العزيمة المقاتل دفاعاً عن الاستقلال والعروبة والعلمانية والحضارة في مواجهة الاستلحاق الغربي والعثمنة والظلامية والتخلف الخليجي وقوى الإجرام المذهبي والطائفي و«المطاوعة».
الانتصارات الجزئية التي يحققها الإرهابيون في الحرب، لا تبعث على القلق إلا بالقدر الذي يتأخر فيه الهجوم المعاكس. وهو يتأخر ليس بسبب غياب القدرة، بل يسبب غياب الحسم السياسي في التطهير وإعلان البرنامج الاجتماعي التقدمي والعروبي والعلماني، وصد الإرهاب الإقليمي بمثله.