يواصل «نادي لكل الناس» محاولاته الهادفة إلى إنعاش الذاكرة السينمائية اللبنانية وانتشالها من الماضي وربطها بحاضر سينمائي ضائع يبقى بأغلبه بعيداً عن تصوير الواقع المجتمعي في لبنان. هكذا، يعرض النادي شريط «نعش الذاكرة» الذي أعاد كريستيان غازي (1938) الى الأعمال التسجيلية عام 2001 بعد توقفه عن صناعة الأفلام منذ العام 1983.
سبقت محاولات كريستيان غازي السينمائية جيله من السينمائيين ممن عاصرهم، وتوجّه باكراً الى سينما هادفة خلال حقبة الستينيات التي اشتهرت بإنتاج أفلام «النجوم» المصريين واللبنانيين من دون رسالة سينمائية اجتماعية تُذكر. حتى حين استهل مشواره بأفلام عن السياحة اللبنانية، فقد تنبّه ونبّه الى أنّ صورة الفلاح تتحول الى بطاقة بريدية، فوضعها الى جانب صور الكازينو وبدّل بين أصوات المَشاهد، ليُسمع صوت المحراث والفلاح والبقرة في صورة أصحاب البزات الأنيقة الذين يرمون أوراقهم النقدية في صالات الكازينو. وفعل العكس في صورة الفلاح: ركّب صور صهصهة اللاعبين وأصوات الماكينات... أحرق المكتب الثاني هذه السلسلة من الأفلام في العام 1964 بدعوى تشويهها السياحة اللبنانية.
بدأ كريستيان غازي مشواره مشاكساً، الكاميرا بيد والبندقية بيد أخرى. مشهد لم يرق للقناص المتربّص بالمارّة، فأطلق النار وأصاب الكاميرا التي كان يحملها غازي، الى جانب بندقيته. بدوره، لم يرق لغازي إصابة الكاميرا، فعاين مكان القناص وأطلق النار عليه منتقماً. ترك غازي السياحة وصُوَر بيروت الفضفاضة وانتقل الى الصور الموازية: صور البؤس والفقر وصور المقاومة الفلسطينية التي كانت قد انطلقت وطغت على كامل المشهد، فانتسب صاحب «مئة وجه ليوم واحد» إلى «الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين» في العام 1968.
تناول في أفلامه المشكلة الزراعية في وثائقي «مزارعي التبغ في الجنوب» (1970)، وأنجز آخر عن المزارعين المسنين عام 1974، وعن النزوح من الريف الى المدينة والوضع الاجتماعي والبطالة في وثائقي بلغت مدته 64 دقيقة، والنزوح بسبب الحرب الأهلية. قدّم أفلاماً كثيرة عن الحرب الأهلية والأزمة اللبنانية من 1976 الى العام 1983. لكنّ المقاومة ومواضيع اللاجئين والحياة في المخيمات أخذت الحيز الأكبر في مواضيعه السينمائية بدءاً من الفيلم الروائي الوحيد عن العمل الفدائي «الفدائيون» (42 د ــ 1967) مروراً بأفلام وثائقية قصيرة كـ«لماذا المقاومة؟» الذي ضاع ابان الحرب وكان يحتوي على حوارات مع قادة فلسطينيين، مثل غسان كنفاني وإبراهيم العابد، و«الحياة في المخيمات» (1970)، و«الوجه الآخر للّاجئين» (1971).
أفلام تسجيلية وروائية، لا يمكننا أن نحكم الآن على مستواها وعلى لغتها السينمائية التي استعملها غازي آنذاك، لا يسعنا الا أن نستمع بحسرة الى صوته في اللقاء المصوّر «مسرح عند ملتقى الرياح» لنانسي ليشع الخوري حيث يخبرنا كيف احترقت كل تلك الأفلام وضاع جنى العمر: «صوّرت 45 فيلماً، كلها مُنعت من العرض.. لا أملك حتى أي ورقة أو حق فيها». كل هذه الأفلام احترقت على مرحلتين: أحرق المكتب الثاني السلسلة الوثائقية السياحية، وأحرق المسلحون والميليشيات باقي أفلامه في الثمانينيات «لاستعمالها وسيلة تدفئة»!
بكى غازي حين أمسك بالفيلم الوحيد الذي أُنقذ من بين أعماله وهو «مئة وجه ليوم واحد» (1969 ــ1970) الذي نال جائزة النقاد ضمن «مهرجان السينما البديلة» في دمشق عام 1972. يقول عنه غازي إنّه كان مرشحاً للجائزة الأولى، لكنّ عبد الحليم خدام «الذي تحوّل الى ناقد سينمائي حينها» تدخّل ليحول دون ذلك. طبع «نادي لكل الناس» الفيلم ووزّعه كما فعل من قبل بأفلام مارون بغدادي وبرهان علوية.
عاد كريستيان غازي الى الإخراج عام 2001 في تجربة وثائقية حملت عنوان «نعش الذاكرة». هنا، يرى نفسه وأيامه في شخصيات وحيدة، فقيرة، ويهدي الفيلم الى «كل من سيفهمه... والى الأحفاد». يصوّر لحظات المرحلة التي تفرز الذكريات والتأملات في الماضي برمزية خاصة. يرصد تحوّل ايقاع الحياة وايقاعه وبقاءه وحيداً مع الصور بعد انقضاء الوقت، بعد خروج فصائل المقاومة الفلسطينية، وانسحاب الآلة العسكرية الإسرائيلية ثم إعادة تموضعها، وهي في كل يوم، تقْصف بمدفعيتها وتُجابه بالصرخة والحجر.
أضاف «نادي لكل الناس» الى شريط «نعش الذاكرة» وثائقياً قصيراً عبارة عن لقاء بكريستيان غازي في مقهى الروضة في بيروت بعنوان «مسرح عند ملتقى الرياح» من إخراج نانسي ليشع الخوري. يروي السينمائي السبعيني الذي لا يفارق سيجارته ذلك المشوار الطويل، باحثاً بغضب داخلي مكتوم، لا عن تكريم ولا عن شهرة، بل عن حق ضائع وعن أعمال أكلتها نار الحرب.



«نعش الذاكرة» لكريستيان غازي ـــ 7:00 مساء اليوم ــــ «المكتبة العامة لبلدية بيروت – الباشورة» ــ يلي العرض لقاء مع المخرج ـــ للاستعلام: 01/664647