تجاوزت الانتفاضة المصرية ضد الرئيس محمد مرسي، في يومها الأول، هدفَها الأوليّ، وهو إسقاط إعلانه «الدستوري» الديكتاتوريّ، إلى تفكيك مشروعين معاً؛ جمهورية الإخوان المسلمين، والشرق الأوسط الإخوانيّ ــــ الأميركيّ الذي رُسمتْ ملامحه في اتفاق تهدئة غزة.
أعلن ميدان التحرير أن الثورة مستمرة. وهي ستستمرّ طالما أن أياًً من أهدافها لم يتحقق. فالثورات لا تقوم لاستبدال حاكم بحاكم، وإنما لإحلال طبقة محل طبقة ونهج محل نهج. ونهج مبارك باق، وإنما تغيّرت الوجوه: حلّ الملياردير الإخوانيّ، خيرت الشاطر، محلّ الملياردير جمال مبارك، في إدارة الاقتصاد المصري لمصلحة المستثمرين الأجانب والخلايجة ووكلائهم من رجال الأعمال المحليين (أولئك الذين استعادوا وحدتهم، سريعاً: مباركيين وإخواناً)، وتحت إشراف صندوق النقد الدولي، ووفقاً لوصفته الشهيرة: إزالة الدعم عن سلّة عيش الفقراء وزيادته لصالح الأغنياء (على شكل تسهيلات وإعفاءات ضريبية ونظام ضريبي تنازليّ الخ).
الحفاظ على الامتيازات الطبقية للنخب المثرية والمتنفّذة، لا يمكن أن يمشي إلا بثلاث: التحالف مع الولايات المتحدة، والسلام مع إسرائيل، والاستبداد. وقد وصل النظام المباركي إلى هاوية الفشل في إدارة هذه المعادلة، ولم يعد قادراً على ضبطها، فانهار تحت لهيب انتفاضة ركِبَها «الإخوان»، وقدّموا أنفسهم كبديل مضمون لاستمرار تلك المعادلة ذاتها بثوب ديموقراطيّ وإسلاميّ. ولكن خمسة أشهر فقط في قصر عابدين، أوصلتهم إلى الحقيقة؛ لا يمكن إدارة اقتصاد غير عادل إلا بالاستبداد.
كل ذلك قاله مواطنون بسطاء، تعلو زبيبة الصلاة جباههم، من منصة ميدان التحرير. قالوه على الفضائيات، وقالوه بالشعارات، وأكثرها فصاحة ودقة، ما عنونت به «الأخبار» عددَها أمس: «احلق ذقنك، اكشف عارك. تلقى وجهك وجه مبارك»!
لكن جماهير تجديد الثورة المصرية، تخطّت كشف زيف السياسات الإخوانية، إلى التشكيك في شرعية جماعة الإخوان والحركة السلفية، من الجذور؛ ليس الهتاف، فقط، بسقوط «حكم المرشد»، وإنما، أيضاً، طرح هذا السؤال الفلسفي على لسان مواطن فقير بادي الورَع: «لمَ جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية في بلد كله إخوان ومسلمون وسلفيون»؟ حقاً إنه السؤال الذي يفكّك الإسلام السياسي في مصر؛ فإذا كان من المفهوم أن تنشئ الأقليات الدينية أو المذهبية جماعاتها وأحزابها، فإن المعنى الوحيد لوجود حركات إسلامية في بلد أغلبيته مسلمة متدينة، هو الإعلان المبدئي عن أن الآخرين ليسوا بمسلمين، بل يشكلون «مجتمعاً جاهلياً» على ما أفتى به المؤسس الثاني لـ «الجماعة»، سيد قطب. وفي قلب هذه الفكرة، تكمن الديكتاتورية. وبما أن الأخيرة محصّنة بثوب عقيدي وتنظيم حديدي وجمهور تابع، فنحن أمام «الفاشية»! والفاشية والنازية، بالمناسبة، وصلتا إلى السلطة بالانتخابات، ثم انفردتا بها، وبنتا الديكتاتورية.
وسأظل في ميدان التحرير، أنهل الحكمة، هذه المرة، من سيدة كادحة محجّبة، قالت، ببساطة، إنها انتخبت مرسي، ولكنها خائفة من أنه يريد، من خلال استئثاره الكامل بالسلطة، إرسال الجيش المصري للقتال في سورية. وهذه تهمة من بين عشرات التهم التي رددها المنتفضون حول «النقاط السرية في اتفاق غزة»، و«بيع سينا»، وتحويل المصريين إلى «حرس لإسرائيل»، واحتضان خالد مشعل «اللي خان وباع»!
هناك، في محور المقاومة، مَن يعتقد، واهماً، أن التقرّب من «الإخوان»، لازمٌ لتجاوز «الفتنة» مع «الجماهير السنّية» في مصر، إلا أنه اعتقاد زائف يصدر عن إغلاق العيون والآذان عن الصوت الحقيقي للجماهير الوطنية؛ هذه الجماهير موجودة وحيوية وواسعة، لكنها متَجاهَلة. الجماعة المصرية هي جماعة قومية بالتعريف، لا طائفية ولا مذهبية، وتديّنها الكلي حضاريٌ ومتسامحٌ ولا يتصل بالسياسة إلا من زاوية المحفّزات الثقافية القومية، بينما يظل المشروع الذي يستجيب لمصالحها ويلهمها، هو نوع محدّث من ناصرية ديموقراطية.
السقوط المعنوي لجمهورية الإخوان (قد يأتي السقوط الفعلي قريباً) وجّه، فوراً، ضربة قوية إلى الاستراتيجية الأميركية التي تهدف ـــ حسب ناحوم برنياع في «يديعوت أحرونوت» ـــ «لبناء محور مكوّن من مصر (مركزه) وتركيا والدول الخليجية والسلطة وحماس، في مواجهة المحور المتطرف الذي تمثّل إيران عمقه، ويهدف إلى إسقاط نظام (الرئيس بشار) الأسد». لكن فات برنياع أن يسمي جبهة 14 آذار اللبنانية في المحور الأول الذي ترعاه واشنطن، وكذلك، تجاهل الشريك الخفي الرئيسيّ فيه، أيّ إسرائيل.
الإسلام السياسي في مصر، بالطبع، ليس قوة هامشية. وسواء أبقي في موقع الحكم ـــ ضعيفاً ومهزوزاً ـــ أم سقط وانتقل إلى المعارضة، فإنه باق، بالتأكيد، زمناً طويلاً، لكنه أصبح، منذ ثلاثاء التحرير الثاني، فريقاً... لا بديلاً؛ نسخة مصرية من 14 آذار، في مقابل نسخة، أكثر حداثةً وأملاً بالفوز، من 8 آذار في لبنان.