في أولى تصريحاته أمام وسائل الإعلام، عقب انتخابه رئيساً للمجلس الوطني السوري، كانت العبارة الأبرز التي أطلقها جورج صبرة: «نريد سلاحاً». وبطريقة لا تخلو من شحنة حماسة دراميّة، كرّر عبارته تلك ثلاث مرّات، في مشهد يختزل ما آلت إليه الأحوال في سوريا، ويكشف في الوقت عينه تهافت خطاب قسم من المعارضة، وانسياق أصحابه وراء أمراء الحرب الجدد، من متزعّمي الفصائل المتنوّعة المقاتلة على الأرض السوريّة. أو لعلّه يضع عنوان فصل جديد في المأساة السوريّة. مسألة الإصرار على العسكرة والتسلّح، لا تقتصر على بعض «السياسيين» في المعارضة السورية، كحال صبرة وباقي أعضاء مجلسه الوطني، بل تتعدّاهم، لتشمل عدداً من المثقّفين «الديموقراطيين» المعارضين، الذين باتوا منظّرين للعنف والعمل المسلّح. أحد هؤلاء، وربّما أكثرهم شعبيّة في أوساط مؤيدي هذا التوجّه، الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، فقد كان من أوائل من نظّروا لفكرة «المكوّن العسكري للثورة السورية».

وفي مقال له، منشور في جريدة الحياة بتاريخ 21 تشرين الأول/أكتوبر، بعنوان «إما سياسة بين سياسيين وإما حرب بين محاربين»، يرى الحاج صالح أنّ تلبية «مطلب امتلاك السياسة والمبادرة السياسية» من قبل الجمهور، تقتضي «امتلاك الحرب أو منازعة النظام على احتكارها». ولمّا كان النظام «استند إلى هذا الاحتكار لاستعباد عموم السوريين طوال نحو نصف قرن»، بعبارات الأستاذ ياسين، ربّما أمكن الاستنتاج أنّ السوريين سيكونون على موعد آخر مع «الاستبعاد» بصعود المحتكر الجديد، الذي يحارب النظام اليوم بأساليبه ذاتها، ويتقاسم معه ممارسة انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، بحسب ما تؤكّده تقارير المنظّمات الدولية. وبالرغم من إقراره أنّها «ليست الطريقة المثلى لتحول ديموقراطي»، يصرّ الكاتب على «المقاومة المسلّحة»، وهي التسمية التي يطيب له إطلاقها على حالة العسكرة والعنف المسلّح، التي حلّت محلّ الانتفاضة الشعبيّة السلميّة، بما تبع تلك «المقاومة» من فوضى سلاح بلغت حدّ دخول «الجهاديين» إلى البلاد للمشاركة في القتال. الأستاذ ياسين نفسه، كان قد تحدّث في غير موضع عن بروز «وجه ديني إسلامي» للانتفاضة السوريّة «بالتوازي مع صعود المقاومة المسلحة» (في خصوص مأزق الثورة السورية، الحياة، 7/10/2012).
كان واضحاً منذ اليوم الأول، لانطلاق التظاهرات المطالبة بالتغيير في سوريا، أنّ قرار النظام هو استخدام العنف والقمع لوأد الحركة الاحتجاجيّة في مهدها، بالتوازي مع إطلاق وعود الإصلاح والانفتاح. في تلك المرحلة، التي امتدت طوال العام الأول من عمر الانتفاضة تقريباً، أي الفترة التي سبقت العسكرة، شكّل الحراك السلمي حالة ضغط وتأثير فعليّة أربكت النظام، وأجبرته على اتّخاذ عدد من الخطوات، أراد من خلالها الإيحاء بتجاوبه مع المطالب الشعبيّة، كوسيلة إضافيّة لاحتواء الشارع المنتفض. كما أثارت سلميّة الانتفاضة تعاطفاً شعبيّاً واسعاً مع المحتجّين، داخل سوريا وخارجها. وبين انجرار قلّة من المحتجّين إلى العنف، كردّ فعل على ممارسات أجهزة النظام، أو حتّى من باب الدفاع المشروع عن النفس أمام حالات الاجتياح العسكري للمناطق المنتفضة، دون مراعاة أبسط القواعد الإنسانيّة المتعلّقة بتحييد الأطفال والنساء، وبين انتهاج العنف المسلّح سبيلاً لإسقاط النظام، ثمّة لحظة فارقة.
لعلّ المأساة التي شهدها حي «بابا عمرو» في حمص تمثّل نقطة التحوّل الفاصلة في تطوّر مجريات الانتفاضة السوريّة، سواء لجهة أعداد الضحايا من قتلى وجرحى ومهجّرين، وحجم الدّمار والتخريب الذي طال الممتلكات العامّة والخاصّة، أو في ما يخصّ مسألة التعاطف مع الانتفاضة في الداخل والخارج، وتحوّلاتها اللاحقة. ذلك أنّ النزوع نحو العسكرة قدّم للنظام فرصة لالتقاط أنفاسه، التي كادت تقطعها المظاهرات السلميّة. فالعنف هو الملعب الوحيد الذي قد ينتصر فيه النظام المفلس أخلاقيّاً وسياسيّاً. ومع تدفّق السلاح على سوريا وانحسار الحراك السلمي لصالح العسكرة، وكسر احتكار السلطة للعنف باتت تقارير الجهات الدوليّة المعنيّة تزخر بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الأطراف جميعاً. على أنّه لا يغيّر من وصف الانتهاك أو يقلّل من مسؤوليّة مرتكبيه، أن يكون ناجماً عن «فعل» أو «رد فعل»، ولا أن يسجّل على هذا الطرف أو ذاك عدد أكبر أو أقلّ من الانتهاكات.
ترافق ذلك مع ازدياد حدّة الاستقطاب الطائفيّ. والمشكلة هنا لا تكمن فقط في استخدام السلاح، وإنما في الأيديولوجيا التي تحكم من يستخدمونه. فالعنف الطائفي لا ينشأ من فراغ، بل هو مرتبط بتوافر بنية فوقية تنظّر له، وتصيّره ظاهرة مادية يومية. ساهم كلّ من النظام والمعارضة في إنضاج تلك البنية الفوقيّة التي باتت تهدّد وجود الكيان السوري برمّته، إذ إنّه عبر نغمة «تخويف الأقلّيات» التي اعتاد النظام عزفها، اندفع أبناء تلك الأقلّيات إلى التسلّح، بل والقتال لاحقاً إلى جانب القوّات الحكوميّة تحت مسمّى «اللجان الشعبيّة»، ممّا أكسب العنف المنتشر في البلاد صبغة طائفيّة، عزّزها ظهور القاعدة وأخواتها في العديد من المناطق. ومع اختزال العمل الثوري في مجرد خوض معارك وقتال، بدأت الانتفاضة تخسر تفوّقها الأخلاقي. وبعد أن كانت أخبار الانتهاكات حكراً على النظام وأجهزته طيلة الأشهر الأولى من التظاهرات السلميّة، كثرت الأحاديث عن التجاوزات والإساءات التي ترتكبها بعض كتائب المعارضة المسلّحة، أو تلك المندرجة ضمن السلفية الجهاديّة، في الكثير من المناطق الخاضعة لسيطرتهم. وذلك طبيعيّ، فالإنسان الذي حمل السلاح دون انتماء سياسي منظم وتثقيف كاف سيعوّض عن نقصه بنوع من التفوق والاستعلاء على من حوله، إذ يتخذ السلاح دلالة مبالغاً فيها تكاد تكون سحرية، فهو درع وحماية وهو رمز الوجود الجديد القيمة الحقيقية للوجود، بحسب ما يذهب إليه مصطفى حجازي في دراسته القيّمة عن «سيكولوجية الإنسان المقهور».
لا يبدو أنّ كل ذلك سيدفع الحاج صالح، ومن لفّ لفيفه، إلى إعادة النظر في خيار «المقاومة المسلّحة»، فخطاب التيئيس من جدوى السياسة والتفاوض لدى بعض المعارضة والقوى الداعمة لها في تصاعد مستمر، وهو يعكس رغبة في خلاص سريع قد يحقّقه العمل المسلّح، بصرف النظر عن التكلفة البشريّة والمادّية التي سيدفعها السوريون، وهم يدفعونها يوميّاً. كأنّ شاغل هؤلاء ليس مستقبل سوريا، أو فكرة التغيير الديموقراطي، جوهر الثورة المفترض، وإنّما الهدف إسقاط النظام، وليأت من بعده الطوفان. من هنا يمكن فهم تحوّل بعض الساسة والمثقفين إلى مجرّد طبول حرب، تنظّر للعنف والسلاح، بوصفه الحلّ السحري.
* كاتب سوري