لم تعترف السلطة بالثورة الشعبية، التي امتدت وتوسعت، ولم تبقَ بقعة جغرافية في سوريا، إلا ثارت، بهذا الشكل أو ذاك، ولا يهمنا في هذا إن كانت مدينة قد خرجت بأكملها أو بتظاهرة صغيرة، أطلقت بعض الشعارات في حيّ جانبي، أو وزع الشباب والشابات بعض المناشير هنا أو هناك، فالدلالة واضحة المعالم؛ ثورة متجليّة بألف شكل وشكل، وفي عموم سوريا.تعددت تمظهرات الثورة؛ فإذا كانت في بدايتها سلمية خالصة، فإن مكون الإغاثة الطبية والغذائية والمالية ظهر لاحقاً، وذلك بعدما زاد عنف النظام، وانفلتت أدوات القتل تفرم السوريين، ضاربة عرض الحائط بأبسط القواعد السياسية وأعقدها في إدارة شؤون الحكم. وبذلك أجبرت الثورة على تشكيل مكون عسكري لها، وصار جزءاً أساسياً منها، ولا يغير في ذلك تعاظم كتائبه، وسطوة السلاح وكثرة الشهداء، وبذلك صار للثورة مكونان أساسيان، مكون التظاهر والإغاثة ومكون العسكرة. وإن أصبح المكون الأخير يمثل في بعض كتائبه خطراً بسبب تداخل السلاح والطائفية والجهادية الآتي من الخارج، ولو كانت بأعداد صغيرة ومحصورة في بقعة واحدة هي حلب على نحو أوسع، لكنه رغم ذلك يظل في إطار السيطرة، نظراً إلى كون الثورة شعبيةً ووطنيةً وليست مصنعةً خارجياً وطائفياً ولغايات العسكرة والاقتتال الأهلي.
أسوأ ما حصل في الثورة، دور المعارضة السياسية القديمة؛ فقد أسهمت بداية في تشويه الوعي السياسي البسيط للثائرين. فقد تنازع العقلَ الثوريَّ مكونان أوليان، المجلس الوطني وهيئة التنسيق، وافتقد الاثنان أية دراسات ورؤى وبرامج للواقع السوري ولم يفهما الثورة، بل تعاملا معها كأنّها امتداد لرؤاهم السابقة عليها؛ لذلك شكلوا إعاقة فعلية في سيرورة تطورها. وما إسقاط الشعب للهيئة أولاً ثم للمجلس وقد بانت هشاشته في الأشهر الأخيرة، إلا دليل على ما ذكرنا. وبالتالي يقع على الثورة، وقد تعاظم شأنها ويتعاظم يوماً إثر يوم، أن تفرز قيادة سياسية لها في الداخل كما شكلت تقريباً قيادة عسكرية مشتركة لكامل الكتائب، وأدارت الظهر كلية لكل تشكيلات المعارضة، بما فيها معارضة «المبادرة الوطنية» الأخيرة التي يتزعمها رياض سيف، لأنّها تقوم على نفس أسس المجلس؛ فالخارج هو الأساس لديها لا الثورة بما هي عملية تاريخية مستمرة وقادرة على إسقاط النظام.
في المقابل، لم تقدم السلطة أية بادرة سياسية لمواجهة الثورة، فمنذ أن بدأت واجهتها بالقتل والاعتقال والتعذيب ولاحقاً المجازر والدمار والتهجير، قطعت على نفسها الطريق أمام أية إمكانية لكي تُقبل شعبياً من جديد؛ وإذا كان لديها موالون في بداية الثورة وفي الأشهر الأولى، فإنها الآن، تقود معاركها بقواها العارية، الأمنية والعسكرية، بعيداً عن أية حاضنة شعبية لها. في المقابل، رغم الأخطاء الكاسحة للكتائب في بعض المناطق، بل وتذمر السكان منها، فإنّ عنف النظام وعدم قدرته على اعتماد أي حل غير العسكري، وهو لا يملك غيره بالأصل، دفع الشعب مرة تلو الأخرى ليكون حاضنة دائمة للثورة وللكتائب المسلحة، بسيئاتها وإيجابياتها. وبالتالي كل ما تفعله السلطة في إطار الدمار والقتل اللامتناهيين، لن يستطيع إيقاف الثورة، وسيسقط لا محالة؛ تشرين الثاني عام ألفين واثني عشر، يوشك أن يقول للسلطة: لم يعد لك مكان في سوريا.
انقسم المثقفون السوريون بين مؤيد للثورة بعجرها وبجرها، شاهر سيفه ضد كل من ينتقدها، وهذا أسوأ فريق من مؤيدي الثورة، فهو لم يسهم في تطوير سياسات الثورة وتبيان مشكلاتها، التي رافقتها منذ انطلقت وإلى الآن، وفقط كال المديح لها والشتائم لمن انتقدها، وكذلك للنظام. وهناك فريق آخر، انتمى إلى الثورة، وانتقد مشكلاتها منذ اللحظة الأولى، لكنّه مغيّب إعلامياً ورافض لأي شكل من أشكال الهيمنة، وحاول ولا يزال تصويب مشكلاتها، والإسهام في إسقاط النظام لكنّه يبقى عاجزاً عن المساهمة الفاعلة نظراً إلى التكالب المتآزر من قبل النظام والدول الإمبريالية والإقليمية على الثورة وعلى هذا النمط من المثقفين. وهناك فريق يؤيد الثورة، لكنّه أطلق العنان لعلمانيته الهشة منذ خروج التظاهرات في سوريا مدعياً أنّها ثورة جوامع؛ بينما الحقيقة أنّها لم تنطلق من الجوامع (بالمعنى الديني) وتعددت أشكالها وتنوعت، وكذلك لم تعلن شعارات طائفية، وبقية شعاراتها الأعم الأغلب شعارات شعبية ووطنية عامة، وبالتالي خشي من الثورة ولا يزال، وقد رفد نقده ذاك بنقد جديد للمكون العسكري كأن الشعب الثائر من ملائكة الله، فلا الرصاص يصيبهم ولا يتألمون ولا الموت يفنيهم. وصار نقده رديئاً وأقرب للمعلق الصحافي من خارج البلاد، فلم ينخرط بالثورة رغم أنّه مؤيد لها. وهناك من المثقفين من عاداها منذ اللحظات الأولى، ولا يزال زاعماً أنّها ثورة إسلامية وطائفية، وهؤلاء رغم قلتهم فإنّ قاماتهم الثقافية تدفعنا إلى القول إنّهم لا يعترفون بالشعب ولا يفهمون مشكلاته، لكن ربما سيكون لهم مكانة ما بأفئدة الشعب من جديد حالما يسقط النظام ويثبت لهم وللعالم بأجمعه أنّ الثورة السورية، كانت ثورة شعب مفقر ومهمش ومذلول ويريد حقوقه في العيش الكريم وفي الخلاص من نظام صبروا عليه طويلاً وكافأهم بالدمار والقتل. ولن نولي بالاً للبقية فهم خارج دائرة الفعل، ويبقى أن هذه الشريحة الطبقية على تنوعاتها أقرب إلى الطبقة الوسطى المثقفة، التي لا تزال تخشى النظام وتخشى النظام القادم، ولا تستيطع الفعل نظراً إلى عزلتها والاهتمام بشؤونها الخاصة.
مثّل الانحياز الخارجي للنظام وللمعارضة دوراً سلبياً في تطوّر الثورة، فقد تحالفت منذ اللحظات الاولى كل من روسيا والصين وإيران وحزب الله والعراق ضد الثورة، وقدمت كل أشكال الدعم للنظام، بدءاً من الدعم الدبلوماسي والعسكري والمالي والاقتصادي والسياسي. بينما منذ اللحظات الأولى للثورة، لم تقدم الدول الداعمة للثورة أي شيء يذكر، فتركيا والسعودية، كانتا في البداية إلى جانب النظام، ولاحقاً انفكتا عنه وبدأتا بدعم المعارضة. والمثير للاستغراب أن التقرير المالي الأخير للمجلس الوطني لم يشر لا من قريب ولا من بعيد لأموال آتية من هاتين الدولتين!
روسيا لا تزال تلغط بكلام عن اتفاق جنيف المتوفَّى، وأميركا تشق المجلس بمبادرة جديدة، وبقية الدول تستمر بدعم أطراف ثالثة ورابعة، موجودة في المجلس وغير المجلس، والنتيجة إعاقة تطور الثورة ومحاولة تشويهها، وإطالة عمر النظام. وفي كل الأحوال الثورة تتقدم بقوة وصلابة رغماً عن الدعم الهامشي للدول الخارجية، وليس لهم منّة على السوريين بشيء. المعارضة لا تفهم ذلك، الثورة أتصورها ستدرك ذلك، وترتقي لتضحياتها هي، وأتصورها ستحدد مواقفها لاحقاً في كل القضايا، الداخلية والإقليمية والعالمية.
يقع على عاتق قوى الثورة، وهي مَن أحدثَ التغييرَ في سوريا، وعلى كل من والاها، ولم يرهن نفسه لتيار سياسي معين، وابتعد عن اللعب السياسي المحدود والضيق، أن تفرز قياداتها السياسية، وأن تقدم رؤية للدولة المستقبلية في كافة مناحي الحياة، ولكافة السوريين، سواء كانوا مع الثورة ودفعوا الأثمان الغالية لانتصارها، أم والوا النظام. الفقراء الذين كانوا جسدها الأساسي، وسواء وعوا مصالحهم وعبروا عن حاجياتهم وأهدافهم، أو عبروا على نحو خاطئ، هم قاطرة الثورة وهم المأمول منهم أن يسقطوا النظام.
إن التخلي عن هدف الدولة العلمانية الديموقراطية، وعن إعمار البلاد بأموال الدولة القادمة، وعدم البدء بمشاريع اقتصادية صناعية وزراعية، وعدم تأمين السكن والتعليم والطبابة والتامين الاجتماعي، وألا يكون للدولة القادمة دور أساسي في بناء سوريا، وأن لا يكون للفقراء دور أساسي لتحقيق مصالحهم فيها، سينقلنا من سلطة شمولية تخفي نهباً وفساداً واسعين، إلى سلطة «ليبرالية» تخفي نهباً جديداً. لذلك ومجدداً السلطة لم تعد تقوى على المواجهة، والثورة تمتد وتتوسع وتحرر مدناً وقوى وأحياء، ويقع على كافة السوريين أن يعوا دورهم في بناء دولة لكل السوريين، قائمة على مبدأ المواطنة وساعية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية.
* كاتب سوري