يُضاعف تصاعد العنف في حلب، وبحدّة مماثلة في أرياف دمشق وحمص وحماة، الاعتقاد بأن العمليات العسكرية لا تزال الخيار الوحيد النافذ في الأزمة السورية، رغم أن كلاً من الطرفين أخفق حتى الآن في الحسم الذي لوّح به، ودخل مع الآخر في حرب استنزاف، ولم يسعه الحصول سوى على مكاسب ميدانية صغيرة على الأرض غير كافية لإرغام عدوّه على التفاوض أو الانكفاء. بذلك يكونان قد كرّسا توازن قوى أتاح للمعارضة المسلحة السيطرة على أجزاء واسعة من المناطق المتاخمة للحدود مع تركيا بسبب وفرة الدعم الذي قدّمته أنقرة، وأبقى للجيش السوري سيطرته على معظم الداخل والمدن الكبرى وطرق الإمدادات إليها بفضل تفوّقه العسكري على الميليشيات المنخرطة في «الجيش السوري الحرّ» والإخوان المسلمين والتيّارات السلفية.
بيد أن وقائع العمليات العسكرية، بدلالاتها السياسية أيضاً، تشير إلى بضعة معطيات، منها:
1 ــــ نجاح المعارضة المسلحة في اختراق دفاعات الجيش السوري في أكثر من مدينة، خصوصاً في دمشق وحلب، إلى المدن المشتعلة الأخرى. لم تعد تكتفي بالعمل الأمني عبر تفجير مقار عسكرية وأمنية وهجمات محدودة على قطع ومراكز صغيرة، بل انخرطت في مواجهة ضارية مع الجيش. وتكاد حلب بأعداد المقاتلين ومستوى التحصينات والأسلحة المستخدمة وبعضها متطوّر، تجعل أرضها ساحة حرب غير مسبوقة على امتداد أشهر الأزمة السورية. يصحّ ذلك أيضاً على الجيش الذي لا يزال يحافظ على تماسكه على خطورة الضربات التي تلقاها أو وجّهها: مقتل أربعة من ضبّاطه الكبار، تفجير مقر الأركان العامة، فقدانه أكثر من 15 ألف عسكري، مشاركته في مقتل أكثر من 20 ألف مدني، تدمير شبه شامل.
2 ــــ تكاد القوة القتالية الحقيقية تقتصر على حلب. يسيطر النظام على ثلثيها، والمعارضة المسلحة على الثلث الباقي. بيد أن المهم في ذلك حشد المعارضة المسلحة في هذا الثلث ما يقرب من 20 ألف مقاتل، بينهم 5000 من جنسيات عربية وأجنبية جلّهم من المتشدّدين والعقائديين المدرّبين باحتراف على حرب عصابات يواجهها الجيش للمرة الأولى داخل القرى والأحياء والزواريب. كذلك لم يخبر «الجيش السوري الحرّ» هذا الصنف من القتال، خصوصاً أن عناصره عسكريون نظاميون انشقوا عن الجيش.
3 ــــ تختصر حلب اليوم معركة الدفاع عن النظام، وقد بات بقاؤه مرتبطاً بسيطرته عليها، أو في أحسن الأحوال على القسم الأكبر منها. ورغم أن إدلب أقرب إلى الحدود مع تركيا، إلا أن لحلب، القريبة بدورها من تلك الحدود، أكثر من خصوصية تتأثر بالطرف الذي يسيطر عليها. بل الأصحّ أن سقوطها في يد المعارضة المسلحة يعني أن على النظام أن يدافع بعد ذلك عن أسوار دمشق. وهو مغزى ضراوة المواجهة. ما ان تسقط في يد المعارضة ثاني أكبر مدينة سنّية بعد دمشق تمثّل أكبر قطب ديموغرافي واقتصادي حتى تتهاوى المدن الأخرى على طريق دمشق كحمص وحماة، أو تلك البعيدة عنها في الشمال الغربي كإدلب، وفي الجنوب كدرعا. الخلاصة نفسها تفضي إليها سيطرة النظام على المدينة بسقوط المدن الأخرى في يده.
الواقع أن طرفي النزاع المسلح يقاربان معركة حلب، بكلفة باهظة للغاية، على أنها آخر المعارك الكبرى، المقرّرة مصير سوريا في يد مَن.
4 ــــ رغم الاعتقاد بأن أحد الطرفين سيحسم معركة حلب عسكرياً في نهاية المطاف، إلا أن الحسابات السياسية والتدخّلات العربية والدولية في النزاع الداخلي تجعل الحسم السياسي غامضاً وملتبساً، وفي الغالب غير مؤكد. إذ، فيما يَظهر النظام متماسكاً، وكذلك دعم حليفتيه روسيا وإيران له، تبدو المعارضة منقسمة على نفسها بين قواها السياسية تارة، وقواها العسكرية طوراً، وكذلك الحال بين سياسييها وعسكرييها. واشنطن منصرفة إلى انتخابات الرئاسة، والسعودية وقطر عاجزتان عن فرض خيار التدخّل العسكري الغربي، ويسود بينهما تباين حيال تسليح المعارضة. لكن المستجد في الأمر، في ما يعكس تداعياً للأزمة يتجاوز سوريا ولبنان إلى السعودية نفسها، الاتصال الذي أجرته الرياض قبل شهر بالسلطات اللبنانية طالبة منها بذل جهود إضافية لمنع تهريب السلاح من لبنان إلى السعودية، بعد اكتشاف خلايا تتولى، بذريعة بيع السلاح إلى سوريا، تسهيل إمراره إلى المملكة.
بدورها تركيا ضائعة بين المضي في محاولة إسقاط نظام الأسد من دون التورّط المباشر، وبين انكفاء أملته اتصالات إيرانية ــــ روسية بها لتخفيف غلوائها. لم تعد أنقرة متأكدة من تنحّي الأسد، ولا إسقاطه بالقوة حتمي، ولا كذلك انتزاع حلب منه لجعلها منطقة عازلة. في جانب من هذا الظنّ ما أبلغته الاستخبارات التركية إلى مسؤول لبناني في مرحلة التفاوض على إطلاق المخطوفين الشيعة في سوريا: تصرّفوا على أساس أن حلب في يد الأسد.
لم يحل هذا التردّد دون ردّ عسكري خجول لأنقرة على استفزاز سوري لأراضيها. لم تعد تقول بإسقاط النظام بعدما أمهلته أياماً تلو أيام على امتداد 19 شهراً، وأمست اليوم تقبل ـــ خلافاً لكل ما نادت به على مرّ تلك الأشهر ـــ ببقاء النظام ورحيل الأسد بعدما كانت وجدت فيهما صورة متطابقة يقتضي تقويضها كلها، حينما قدّمت نفسها للعالم على أنها الدولة الوحيدة القادرة على كسر ظهر نظام الأسد.
5 ــــ بعدما أدرك الرئيس السوري أن خيار التدخّل العسكري الغربي بات مستبعداً، وكذلك إسقاطه بالقوة، تحوّل إلى شريك فعلي إلى طاولة التفاوض. كان اتفاق جنيف في حزيران الماضي سبّاقاً إلى طرح خيار متوازن يقضي بفتح حوار بين الأسد ومعارضيه عبر حكومة وحدة وطنية لإدارة المرحلة الانتقالية. بيد أن الاتفاق ظلّت تعوزه حجج حقيقية لوضعه موضع التنفيذ، هي الوقائع العسكرية وقلب موازين القوى عبر معركة حلب.
بالتأكيد لم يعد في وسع الأسد، كما قبل سنة، فرض ما يريده. إلا أنه لا يزال يملك رفض ما قد يُفرض عليه. كَسِبَ، حتى الآن على الأقل، معركة بقائه في الحكم وحال دون إطاحته، من دون أن يفرض أمراً واقعاً. لم يعد في إمكانه القول، في أي مكان في سوريا، في حلب كما في دمشق خصوصاً، إن الأمر له.