هل أخطأنا حيال الحريري؟؟
يجلس آخر المسيحيين المتفكرين والمستقلين في آخر تكاياهم المهددة مثلهم بالانقراض. يقلّبون خارطة الوطن الزاحلة صوب أمكنة ما عادوا يعرفونها ولا تعرفهم. يقرأون في طرابلس قندهارية قافزة في عصر الرافعي والشهال والدقماق وكل الملالي. ينتقلون ببصيرتهم صوب البقاع الأوسط، فيطالعهم ملّا آخر، رمزي ديشوم، الأمين العام لحركة «مسلمون بلا حدود»، وهو يعلن إطلاق «حملة امتلاك السلاح والإعلام والمناطق الأمنية والرجال والمال والدماء»، فيما نائبه _ البلا حدود أيضاً وطبعاً _ يهدد الجيش اللبناني نفسه بأن «زمن الهوان والاستضعاف والاستخفاف بأهل السنّة قد ولّى إلى غير رجعة»... بينما بوابة صيدا والجنوب على موعد ثابت دائم مع دراجة الأسير الهوائية، ومع تسارع دورانها ودُوارها، كما كل راكب دراجة، يصير أسيرها، أو يقع.
ينظر المسيحيون من مدّعي الفكر المستقل إلى تلك المشاهد، فيسألون أنفسهم سراً وخجلاً وخوفاً: هل أخطأنا تجاه الحريري؟
تبدأ الجردة في ذهنهم من الزمن السوري. يومها يقال إن حافظ الأسد منع الحريري الأب من زيارة مسجد، لئلا يتواصل مع قاعدته السنية، فيعبئها في اتجاه أصولي. بعد أعوام من العلاقة الملتبسة والتحالف اللدود ومطبات القطيعة بعد تطابق أو تقاطع، قررت دمشق الأسد الابن إزاحة الحريري الأب من بيروت في تشرين 2004، في ذروة حاجتها إليه، وسط الهجمة الدولية عليها. فزحلت الساحة السنيّة اللبنانية يميناً. لكنها وقفت في مكان هو نفسه مفارقة. بين قاعدة متهمة بطالبانية جديدة، وبين قيادة حريرية رفعت فجأة شعار «لبنان أولاً». ومرة ثانية عادت العلاقة السورية الحريرية مع الابنين إلى دوامة علاقة الوالدين نفسها. من اتهامات كبرى فوق سطوح نيويورك ولاهاي، إلى مبيت في بيت الأسد واعتذار. ومرة ثانية، في لحظة صراع على العراق مع السعودية، انفجرت معادلة س/س، فأزاحت دمشق الحريري الابن مطلع عام 2011، وهي مفترضة في أقصى حاجتها إليه، عشية الإعصار العربي الداخل في سبات شتائي عاصف، على رجاء ربيع ما، يوماً ما...
ويكمل المسيحيون المستقلون تفكُّرهم: في المرتين وقفنا متفرجين، بل أحياناً شامتين، وحيناً حتى بين الجزارين عند وقوع الثور الأسود. في النتيجة فوّتنا مع الحريري الأب فرصة أول زعيم لبناني سنّي نقل البسطة من عبد الناصر وأبو عمار، إلى ما يشبه الجميزة، أو ... مونو. لكن الأخطر ارتكبناه مع الحريري الابن. فعندما رفع أحفاد «مؤتمر الساحل» شعار «لبنان أولاً»، دفعناهم بإخراج زعيمهم إلى خطر خروج جماعة أساسية ومؤسسة للبنان هذا عن ميثاقه وجوهره. حين أُخرج الحريري سارعت طبيعة ساحته إلى ملء فراغه. فملأته بالرافعي والديشوم والأسير ومن معهم. حتى باتت الجماعة السنيّة على مشارف خروج بيئتها الاجتماعية العامة، من النسيج اللبناني التاريخي، بدليل ما يكتبه علماء الاجتماع عن مظاهر العيش اليومي في أبي سمرا ومجدل عنجر وبعض الإقليم ومربع عبرا. كأن قسماً ملحوظاً من تلك الجماعة اللبنانية المكونة عضوياً لمفهوم «اللبنانية»، بدأ يصير خارجها فعلياً وعملياً، بطريقة عيشه ولباسه ووجهه وصوته وفكره وقوله وعمله وكل ما فيه.
وهي اللحظة الثانية في هذا السياق، بحسب تفكير المسيحيين المستقلين أنفسهم. فلقد سبق السنّة إلى هذا الخروج خروج قسم كبير من الجماعة الشيعية، مع ظاهرة حزب الله بالذات. وهو خروج عرف صعوداً وهبوطاً. بين وثيقة الـ87 تصعيداً وظاهرة حسن نصرالله تسويةً ومصالحة ولبننة. لكنه يظل خروجاً عن الفكرة اللبنانية، كما يراها هؤلاء. تكفيهم دليلاً على هذا الخروج نظرية ولاية الفقيه.
ماذا تركنا لأنفسنا؟ يسأل المسيحيون المستقلون. وليد جنبلاط؟ ونحن أدرى الناس بزئبقيته من جهة، ورهاناته من جهة أخرى، وواقعه الزوالي، كما وصفه هو نفسه بظاهرة آخر الهنود الحمر من جهة ثالثة، وبحبه النادر والخالص لمسيحيي لبنان ودورهم وزعامتهم وزعاماتهم، من جهة رابعة؟ ماذا تركنا لأنفسنا، يسألون، غير التساؤل المكتوم: هل أخطأنا تجاه الحريري؟
يهرب المسيحيون من تحدي السؤال ووخزه، فيطلعون من جيوبهم ورقة الفساد ونهب الدولة: إنها مسؤولية الحريري أولاً وأخيراً، يقولون. هو من كان الأقوى، في الزمن السوري وبعده. وهو من كان مطالَباً بالمبادرة والشراكة والطمأنة، لا نحن. لكنه قصد بشكل واع وإرادي أن يبتزنا بهذه المعادلة التي وقع وأوقعنا فيها بالذات: إما أن أحكمكم أنا منهوبين، وإما أن يحكمكم الأصوليون ذميين. لذلك ربما جيء بميقاتي عند ميقات خروج الحريري الابن. ربما لأنه مزيج من الاثنين: نصف حريري بملياراته، ونصف إسلامي بخلفيته. عله يثمِّر إيجابيات نصفَيه، ويجنّبنا سلبيات النصفين... تُرى هل أخطأنا حيال الحريري؟