خلافاً للصورة الغربية النمطية (ورديفتها العربية) التي تتناول مسألة «النفوذ» الإيراني في أفريقيا من بوابة الدعاية المذهبية/ الأيديولوحية، جاءت قمّة إيران - أفريقيا الثانية، التي عُقدت في العاصمة الإيرانية طهران، بين الـ 26 والـ 29 من الجاري، اقتصادية بامتياز (مع حضور أكثر من 40 وزيراً للاقتصاد في تلك البلدان)، وكاشفةً لأولويات أجندة إيران الأفريقية. وركّزت القمّة على اجتماعات رجال الأعمال وحلقات النقاش التي ضمّت خبراء متخصّصين في قطاعات صناعات الحديد والبتروكيميائيات والزراعة. واتّضحت من فعاليات القمّة دينامية مقاربة طهران الاقتصادية في القارّة، فيما لم يغب البعد «الأيديولوجي»، وإنْ من بوابة اصطفاف الجنوب العالمي ومناهضة الغرب وتكريس مبدأ «الفوز للجميع» الذي لقي استجابة أفريقية إيجابية.
إيران في أفريقيا: ... أن تأتي متأخراً!
جاءت الزيارات التي قام بها الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، لثلاث دول أفريقية، منتصف العام الماضي، بعد غياب دام عشر سنوات، وللجزائر، في شباط الماضي، بعد غياب استمرّ 14 سنة، ما دلّ - طوال تلك الفترة - على تراجع اهتمام إيران بالقارة. ويؤكد هذه الخلاصة تراجع موازٍ في حجم العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، والذي لم يقطعه سوى تحسّن طفيف شهده عام 2022، حين ارتفعت الصادرات الإيرانية إلى أفريقيا، إلى 1.28 مليار دولار مقارنة بـ 579 مليون دولار في عام 2020. وعلى رغم إعلان الجهات الإيرانية المعنية خططها لمضاعفة هذا الرقم عشرة أضعاف، ليصل إلى 12 مليار دولار، غير أنها لم تحدّد سقفاً زمنيّاً لذلك، وإنْ توقّعت القمّة تحقيق 5 مليارات دولار بين عامَي 2024 و2025.
وأتت كلمة الرئيس الإيراني، في افتتاح القمّة، لتعبّر عن هذه العودة المتأخّرة، كما اتّضح من محاولته صياغة مقاربة عريضة تجاه القارة وقضاياها وتأكيد سعي بلاده للتقارب مع أفريقيا «لمصلحة» الأخيرة، مقارنة بالموقف الغربي «الذي يريد أفريقيا لمصلحته»، مشيراً إلى أن القمّة رمز لإرادة الدول الأفريقية وإيران توسيع العلاقات الاقتصادية في ما بينها. ورأى رئيسي أن هناك ضرورة لوجود خطّة إيرانية مفصّلة للقارة الأفريقية «سيتمّ تحديدها وفق جدول زمني»، لافتاً إلى التقدّم الذي حقّقته الجمهورية الإسلامية والقوى البشرية ذات الكفاءة في أفريقيا، طارحاً مجمل رؤيته حول تقديم إيران التكنولوجيا إلى القارة الأفريقية، ولا سيما بعد نجاحها في دعم مشروعات خدمات هندسية خارج حدودها، من مثل افتتاح سدّ في سريلانكا خلال زيارة رئيسي لها قبيل انعقاد القمة بساعات. وكشفت كلمة رئيسي ودعوته إلى وضع «جدول زمني» لتحديد خطّة العمل تلك، عن أن صياغة سياسة إيران الأفريقية لا تزال في بداياتها بعد ما يقرب من عام من جولته الأفريقية.

إيران والتوازن السياسي - الاقتصادي في أفريقيا
مثّل دعم إيران لحركة «أنصار الله» في اليمن، والتضامن الكامل مع القضية الفلسطينية، وإطلاق الدول الغربية وعدد من حلفائها مسار توسيع العقوبات على الجمهورية الإسلامية، عوامل مهمّة لجهة دفع التقارب الإيراني - الأفريقي إلى مستويات جديدة، تتّسق مع جهود العديد من الدول الأفريقية لانتهاج سياسات مستقلّة خارج «المظلّة الغربية»، وكذلك مع جهود إيران للتخفيف من وطأة تلك العقوبات بفتح أسواق ومجالات حركة جديدة. وهكذا، تظهر قمّة «إيران - أفريقيا الثانية»، في توقيتها المحدَّد سلفاً والذي تزامن مع تطوّرات المواجهات الإيرانية - الإسرائيلية الأخيرة، كرافعة مهمّة في تحقيق التوازن الاقتصادي - السياسي لمقاربة إيران المستقبلية في القارة من باب تعزيز الشراكات الاقتصادية في مختلف أرجائها، وليس في إقليم غرب أفريقيا فقط، والذي يستقطب راهناً أغلب المبادلات الإيرانية مع القارة. يضاف إلى ذلك، ما يمكن رصْده من رغبة طهران في تطبيع علاقاتها مع عدد من الدول الأفريقية، مثل جيبوتي، وتحقيق مزيد من التقارب مع إريتريا والسودان، حيث يُشاع أن الجيش الذي تمكّن من تحقيق تقدّم ميداني خلال الربيع الحالي، حصل على أسلحة إيرانية متطوّرة. وتؤكد إيران سعيها للتعاون مع الدول الأفريقية (ولا سيما في إقليم الساحل، وصولاً إلى القرن الأفريقي) في ملفّ مواجهة الإرهاب وحفظ الأمن والاستقرار، في رسالة غير مباشرة بقدرتها (بالتنسيق مع قوى مثل روسيا والصين وأطراف إقليمية أفريقية رئيسيّة مثل الجزائر وجنوب أفريقيا) على شغل الفراغ الذي خلّفه خروج القوات الغربية من دول أفريقية واحدة تلو الأخرى.

قمة إيران - أفريقيا 2.0: مكاسب بالجملة؟
بعد مضيّ أشهر على تقارير غربية عن مباشرة إيران «خريطة طريق» جديدة في أفريقيا، قوامها تقديم أسلحة وشراكات و«إثارة الفوضى» لتعزيز نفوذها في القارة والفكاك من «عزلتها الدولية»، جاءت قمّة إيران - أفريقيا الثانية معبّرة عن الجانب الأبرز لمقاربة طهران الحالية، وهو تعزيز العلاقات الاقتصادية مع أكثر من 40 دولة أفريقية، حضر ممثّلون عنها القمّة. وأعرب مسؤولون إيرانيون، خلال القمة، عن تفاؤلهم بما وصفوه «المبادرات الحالية لتيسير قنوات التجارة مع أفريقيا»، كونها تمثّل بداية عهد جديد من التعاون الاقتصادي، ورفع التبادل التجاري معها إلى مستوى 10 مليارات دولار خلال ثلاثة أعوام. وعلى سبيل المثال، جاء حضور نائب الرئيس الزيمبابوي، قسطنطين تشوينغا، فعاليات القمّة، ولقاؤه مع رئيسي، مهمّاً في إطار تعزيز هذا المسار، إذ أيد تعميق التعاون الاقتصادي الذي يفيد الجانبين «اتّساقاً مع توجهات الرئيس امرسون منانغاغوا». كما جاء حضور رئيس الوزراء البوركيني، أبولينير دي تامبيلا، دالّاً على وجود اهتمامات مشتركة بين البلدين (ولا سيما منذ إعادة إيران فتح سفارتها في واغادوغو العام الماضي)، فيما أكد نائب الرئيس الإيراني، محمد مخبر، أهمية تطبيق اتفاقات التعاون لتعزيز العلاقات بين طهران وواغادوغو، واستعداد بلاده، التي تستند إلى قوة تكنولوجية، لمشاركة التقدّم الذي أحرزته مع بوركينا فاسو (وبقية الدول الأفريقية)، وهي مقاربة مغايرة لسياسات الولايات المتحدة والغرب «التي تعطي الأولوية لمصالحها الخاصة بدلًا من المنافع المتبادلة»، بحسب مخبر.